القيودُ التي فُرِضَت على الاستعمارِ الأوروبي ينبغي أن تكونَ تحذيرًا لإسرائيل
مايكل يونغ*
نَشَرَت المُؤرِّخة جولي داندورين أخيرًا سيرةً مُثيرةً للاهتمام للغاية للجنرال الفرنسي هنري غورو، الذي اشتهر في الشرق الأوسط باعتباره أوّل مُفَوَّضٍ ساميٍّ فرنسيٍّ لسوريا ولبنان بعد الحرب العالمية الأولى والرجل الذي أعلن إنشاء دولة لبنان الكبير في أيلول (سبتمبر) 1920.
تؤكّدُ تجارب الجنرال غورو من جديد كَيفَ أنَّ محاولات فرنسا للتَرويجِ لشكلٍ أكثر “تقدّمية” للاستعمارِ بدءًا من نهاية القرن التاسع عشر قد فشلت إلى حدٍّ كبيرٍ في الشرق الأوسط. وتحت ستارِ نظام الانتداب بعد الحرب، كانَ منَ المُفتَرَضِ أن تُساعِدَ فرنسا وبريطانيا الدول المُتَكَوِّنة حديثًا في العالم العربي على التطوّرِ إلى دولٍ حديثة، وبعد ذلك يتمُّ منحها الاستقلال.
إنَّ فَشَلَ نظام الانتداب –حيث لم تتمكن فرنسا ولا بريطانيا عمومًا من تحقيق الاستقرار الكامل في البلدان الخاضعة لسيطرتها، ناهيك عن ترك أنظمة آمنة قائمة– له أهمّية وصلة بما يحدث اليوم. ففيما ترفُضُ الحكومة الإسرائيلية كلَّ الخططِ الرامية إلى تلبيةِ التطلّعات الوطنية الفلسطينية ــالتطلعات نفسها التي كافحت فرنسا وبريطانيا لاحتوائها في الدول العربيةــ فإنّها أيضًا سوف تَجِدُ أنَّ النتيجةَ هي عدم الاستقرار الدائم.
بدأ الجنرال غورو حياته المهنية في السودان الفرنسي، وهو ما يُعرَفُ اليوم بمالي. بينَ العامَين 1893 و1895، كان الحاكم المدني هناك هو ألبرت غروديه، الذي تمَّ تعيينه لتنفيذِ شكلٍ غير مُكلِف من الاستعمار. وكان هذا يتطلّبُ تقليصَ الحملات العسكرية الباهظة الثمن لفرض إرادة فرنسا، وبدلًا من ذلك، فَرَضَ شكلًا أكثر ليونة من السيطرة، حيث تمَّ تقليلُ العُنف إلى أدنى حدٍّ مُمكِنٍ وإدخال تقنيات إدارية أكثر دقّة.
وبينما فشل غروديه في النهاية أمام الجيش الذي قاوَمَ التحوّلَ إلى إدارة، تُشيرُ أندورين إلى أنَّ أساليبه فَرَضَت بالفعل أساليب إدارية دائمة في المستعمرات. وقد اتّسَمَ هذا الاستعمار “الجديد” بـ”فن الإدارة، الأكثر مرونة، التي رأت كيفَ يُمكِنُ لهَيمَنَةِ البيض على الشعوب “الأصلية” أن تأتي من خلال التحالُفِ السياسي والعسكري”.
في سوريا ولبنان، كما في المغرب في وقتٍ سابق عندما خَدَمَ تحت قيادة المارشال هوبار ليوتي، أصبح الجنرال غورو من أنصار هذا الشكل من الاستعمار. كان الانتدابُ على سوريا ولبنان، بطبيعته، يُنظَرُ إليه على أنه مُستَنير. علاوة على ذلك، طوّرت فرنسا وبريطانيا تحالفات مع النُخَبِ المحلّية، وبخاصة مع الأقليات، لتعزيزِ نفوذهما، واستثمرتا في تطويرِ البُنية التحتية والتعليم، على الرُغمِ من أن غالبية القوميين العرب المَحلّيين استمرّت في مُعارضتهما.
ومن الجدير بالذكر أنه في حالات الانتداب البريطاني على مصر وفلسطين والعراق، والانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان، واجهت القوى المُنتَدِبة منذ البداية صعوبةً في فرض أوامرها، إلّا من خلاِل العمل العسكري. ومما زاد الطين بلّة أنَّ كلتا القوتين كانتا قد خرجتا للتَوِّ من حربٍ مُنهِكة أفرغت خزائنهما، وبالتالي لم تكن لديهما الأموال اللازمة للجوء إلى حروب القهر والقمع الدائمة.
وما نَتَجَ عن ذلك، في نهاية المطاف، كان حالة من الهدوء النسبي للغاية في العراق ومصر وسوريا ولبنان، ولكن فقط من خلال ترتيباتٍ قدّمت خطواتٍ نحو الاستقلال، وإن كانت خطواتٍ تجميليّة إلى حدٍّ كبير. ربما كان لبنان هو الأقرب إلى النجاح، ويرجع ذلك أساسًا إلى أنَّ فرنسا منحت الأغلبية المسيحية المارونية دولةً يستطيعون فيها تحقيق طموحاتهم الوطنية.
ومن الأفضل لإسرائيل أن تدرُسَ هذه التجارب باعتبارها قصصًا تحذيرية. الموقف غير الرسمي للحكومة العبرية هو أنها تُعارِضُ حلّ الدولتَين، بينما ترفض بشدّة حلّ الدولة الواحدة. بعبارةٍ أخرى، فإنَّ الطريقة الوحيدة التي تتبعها إسرائيل في التعامل مع حق تقرير المصير الوطني الفلسطيني تتلخّص في الانخراطِ في حربٍ قَمعية وقهرية مفتوحة، حتى مع تحوّلِ العرب داخل فلسطين الجغرافية إلى أغلبية ديموغرافية.
في كثيرٍ من النواحي، كان نظامُ الانتداب أفضل من حيث أنه قدّمَ نقطةً فاصلة نظرية. حكومة إسرائيل لا تفعل ذلك. لقد حاولت خنق القومية الفلسطينية لعقودٍ من الزمن، حتى أنها اعتادت على حظر العلم الفلسطيني. ومع ذلك، يستطيع أيُّ شخصٍ أن يرى بوضوح مدى عدم جدوى هذا النهج ونتائجه العكسية.
قد يشعرُ الإسرائيليون بالإحباط من مُقارَنةِ إسرائيل بالاستعمار الأوروبي. مع ذلك، وكما كتب الباحث الماركسي في الإسلام ماكسيم رودنسون، وهو يهودي ماتت عائلته في المحرقة، في مقالٍ مشهور في “Les Temps Modernes” في العام 1967: “الرغبةُ في إنشاءِ دولةٍ يهودية بحتة، أو ذات أغلبية يهودية، في فلسطين العربية في القرن العشرين لا يُمكِنُ إلّا أن يؤدّي إلى وَضعٍ من النوعِ الاستعماري وإلى تطوّرٍ (طبيعي تمامًا، من الناحية الاجتماعية) لحالةٍ ذهنيةٍ عنصرية، وفي التحليل النهائي إلى مواجهةٍ عسكريةٍ بين المجموعتيَن العرقيتَين”.
بالنسبة إلى رودنسون، فإنَّ الهجرة الجماعية لليهود لبناءِ دولةٍ لليهود خلقت نظامًا سياسيًا في العقود الأولى لإسرائيل، حيثُ تمَّ طرد السكان الأصليين أو حكمهم من قبل نخبةٍ نشأت إلى حدٍّ كبير خارج فلسطين. فمنذ سبعينيات القرن العشرين، اقترحت إسرائيل العديد من المشاريع السياسية “المُستَنيرة” على الفلسطينيين ــمن الحكم الذاتي إلى دولةٍ مُتَقزّمة واهنةــ وكلّها كانت أقل بكثير من رغباتهم.
إنَّ النموذجَ الاستعماري الأوروبي، سواءَ كانَ مَرِنًا أم لا، لم ينجح قط في مواجهة القوميّات المحلّية القوية. وقد تكون القومية الإسرائيلية أكثر قوة من السيطرة الاستعمارية الأوروبية، ولكنها ليست أكثر قوة من القومية الفلسطينية، التي تعمل على تعزيزها فقط. وفي أسوَإِ السيناريوات، حيث تستطيع إسرائيل أن تقومَ بتطهيرٍ عرقي للسكان العرب في وسطها، فإنها لن تتمكّنَ أبدًا من تحقيق الأمن الذي تتوقُ إليه.
- مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @BeirutCalling
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.