لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (21): لبنان في عُيونٍ تُركِيَّة

تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟

سليمان الفرزلي*

في وقتٍ كانَ القلقُ يُساوِرُ واشنطن من تمادي التعاونِ الروسي–الإيراني، الذي لم يُخْفِهِ ويليام بيرنز، مدير وكالة الاستخبارات الأميركية المركزية (سي آي إي)، طَرَحَ الرئيس التركي رجب طيِّب أردوغان فكرةَ عقدِ قمّةٍ رُباعيةٍ تضمُّ: روسيا، إيران، تركيا، سوريا، لبحثِ سُبُلِ التعاون المُشتَرَك بين تلك الدول، والأهم، تطبيع العلاقات التركية–السورية. ولم يكن مُستَبعَدًا أن يكون الوضع اللبناني المتأزّم على أجندة تلك القمّة الرباعية. إلّاَ أنَّ فكرة الرئيس التركي، لم تَخرُج من حَيِّزِ التشاور، ومع ذلك أثارت حفيظةَ الولايات المتحدة، ومَن تحالفَ معها من الأوروبيين، خصوصًا فرنسا.

بدءًا من سنة 2010 أخذت تركيا الأردوغانية تُبدي اهتمامًا مُلفتًا بلبنان، خصوصًا بالأقضية الأربعة ذات الكثافة السنّية التي كانت تحت الإدارة العثمانية قبل إنشاء دولة لبنان الكبير. فقد زار أردوغان لبنان في تلك السنة، (بدعوة من رئيس الحكومة اللبنانية يومئذ، سعد الحريري)، وزارَ بعضَ المناطق منها عكار ليفتتح مدرسة في قريةٍ نائية سكّانها من أصولٍ تركمانية، كما تبرّعَ بإنشاءِ مستشفى عصري في صيدا (اكتمل بناؤه وتجهيزه منذ سنواتٍ عدة، لكنه لم يُفتَتَح بَعد لأسبابٍ غامضة)، ولوحظَ أيضًا أنَّ الأتراك ينشطون بشكلٍ خاص في مدينة طرابلس، وأخيرًا في البقاع الغربي.

إنَّ بعضَ اللبنانيين أطلقَ على هذا النشاط التركي المُتَمَدِّدِ في لبنان (وفي سوريا أيضًا) صفةَ “العثمانية الجديدة”. ويتذكّرُ اللبنانيون أنهُ فورَ وقوعِ انفجارِ أو تفجيرِ مرفَإِ بيروت في الرابع من آب (أغسطس) 2020، وصلَ إلى القصر الجمهوري في بعبدا وفدٌ تركي رفيع المستوى ضمَّ نائب رئيس الجمهورية ووزير الخارجية وآخرين قدموا عرضًا إلى لبنان يُبدي استعدادَ تركيا لإعادةِ بناءِ المرفَإِ وتجهيزه.

لكنَّ التدخّلَ التركي المُستَجِدّ في لبنان يُثيرُ تحفّظاتٍ من بعض الفئات اللبنانية التي ما زالت تشعرُ بالمرارة من الحُكمِ العثماني، وسوفَ يُثيرُ تحفّظاتِ بعضِ الدول الغربية. كما إنَّ هناك إشكاليةً أخرى، لا تقلُّ أهمّية، وهي أنَّ تركيا ما زالت عضوًا في “حلف شمال الأطلسي” وتُقيمُ علاقاتٍ مع إسرائيل منذُ عقود.

وبعضُ الكُتّابِ الأتراك المُعاصرين يُلَمِّحُ إلى أنَّ اللبنانيين مدينون لتركيا العثمانية، وخصوصًا المسيحيين منهم، لاعتبارَين: أوَّلهما، أنَّ التنظيماتَ الأخيرة للدولة العثمانية حقّقت المساواة بين جميع مواطنيها، ورفعت عنهم التمييز السابق ضدهم، فسمحت لهم بشراء الأراضي والبيوت، وأعطتهم حرية العمل والتجارة، فازدهرت أحوالهم الاقتصادية، وعيَّنت وزيرًا للزراعة والإصلاح الزراعي، لوَضعِ قوانين عصرية في هذا المجال، مُفَكّرًا مارونيًا مرموقًا هو المعلّم سليمان البستاني، الذي تركَ بصماتٍ جليلة في تحديث القوانين الزراعية. والمعروف أنَّ البستاني نقل إلى العربية إلياذة هوميروس عن اليونانية.

وثانيهما، أنها سمحت باستقلالٍ ذاتيٍّ للبنان بعد الحرب الأهلية 1860، وأنَّ مجازرَ جبل لبنان في تلك الحرب ما كانت لتحدث لولا تدخّلات الدول الأوروبية، لا سيما فرنسا وبريطانيا.

ففي العام 1975 أصدر الكاتب التركي آنجن أكرلي كتابًا بعنوان: “السلام الطويل: لبنان العثماني 1861-1920” (هو أطروحته للدكتوراه)، حاجَجَ فيه بأنَّ لبنان شهدَ مرحلةَ سلامٍ طويلة بعد الحرب الأهلية امتدّت حتى الانتداب الفرنسي. واستنادًا إلى وثائق ومعلومات استقاها من الأرشيف العثماني، أقام الحجّةَ بأنَّ التجربةَ اللبنانية في الحُكمِ الذاتي، وفي الموالفة بين الجماعات الدينية المختلفة، أرست أساسَ الديموقراطية العلمانية، لكن تدخّلات الدول الأوروبية في السياسة اللبنانية عرقلت الجهود الرامية إلى تطوير مفهومٍ علمانيٍّ للوطنية اللبنانية.

والكاتب أكرلي يُجيدُ اللغة العربية التي اعتمد عليها في أطروحته لفَهمِ وجهة النظر العربية، لكنه انتقدَ اعتمادَ اللبنانيين والعرب على مصادر غربية في المسألة العثمانية من دونِ أيِّ اعتبارٍ لوثائق الأرشيف العثماني، ومنها أشياء لم يَطرُق بابها أيُّ باحثٍ لبناني غير مُنحاز، أو يحمل أفكارًا مُسبَقة من مصادر أجنبية.

وقد أشادت به “الصحيفة الدولية لدراسات الشرق الأوسط” لدقّةِ بحوثه، وغنى محتواه واستشرافيته، واعتبرته إضافةً قَيِّمة إلى المكتبة التاريخية حول لبنان (كتاب أكرلي صادر بالانكليزية عن مطبعة جامعة كاليفورنيا).

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحلِّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: www,sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى