بيتهوفن سرٌّ آخَر: هل إِيليز هي “إِيليز”؟
هنري زغيب*
بعد مقالي الأَخير عن السرّ في سبب موت بيتهوفن (“أسواق العرب” – 23 شباط/فبراير 2024)، هوذا سرٌّ آخر يظهر في سيرته الخاصة ومسيرته العامة، كَشَفَهُ قبل أَيامٍ باحثون في تآليفه الموسيقية، شكَّكوا في أَن تكون مقطوعته “إِلى إِيليز” مهداةً فعلًا إِلى امرأَة اسمُها إِيليز أَو هي لامرأَة أُخرى أَخفاها بيتهوفن وراء اسم “إيليز“.
هنا خارطة البحث في هذا الموضوع.
من تكون هذه الــ”إيليز”؟
“إِلى إِيليز”: مقطوعةٌ شهيرة لــبيتهوفن (1770-1827) وضعَها للبيانو سنة 1810، وكان عامئذٍ على علاقة حب بسيدة اسمها تريز مالفاتّي، وُجدت لديها مخطوطةُ المقطوعة، وكانت تتلمذَت عليه ونشأَت بينهما قصة حب عاصف حتى عرض عليها الزواج منها. ويرجَّح أَن بيتهوفن أَهداها هذه المقطوعة التي لاقت شهرة واسعة عند صدورها، ولا تزال إِلى اليوم من أَشهر تآليف بيتهوفن للبيانو.
في بعض الأَبحاث أَن المخطوطة وجدها الناشر والعالِم الموسيقي لودفيك نوهْلْ (1831-1885)، بعد أَربعين عامًا على وفاة مؤَلفها فأَصدرها سنة 1867 في كتابه “رسائل جديدة من بيتهوفن” (منشورات جوهان فردريش كوتّا – شتوتغارت) وامتدَّت فيه نوتات المخطوطة من صفحة 28 إِلى صفحة 33، وذكَر في مقدمتها أَن المخطوطة الأَصلية ضائعة، وأَن النسخة التي وجدها تحمل على صفحتها الأُولى ما يلي: “إِلى إيليز – 27 نيسان/أبريل 1819”. وكانت تلك المخطوطة في حالة سيئة، وقسْم منها غير مقروء، حتى أَن الباحثين وجدوا أَن اسم “إِيليز” في أَول المخطوطة افتراضٌ وليس يقينًا، فليس في مسيرة بيتهوفن وثيقة ثابتة تشير إِلى علاقة له مع امرأَة بهذا الاسم. ومن يتَتَبَّع سيرته الشخصية العاطفية يجد، إِبان الفترة الزمنية التي كتبها فيها، أَن الإِهداء هو للسيدة تريز مالفاتّي، وعُزِيَ خطأً إِلى “إِيليز”.
لا إِثبات يُركَن إِليه؟
بعد قرنين على غياب المؤَلف العبقري، لم يُثبت أَحدٌ وجود امرأَة اسمُها إِيليز في حياته، سوى أَن تكون رنَّة الاسم سائغةً موسيقيًا على لفظه انسيابًا مع ميلودياها الرومانسية، المنحى الذي يوشِّحُ معظم مؤَلفات العبقري الخالد. وهي كذلك بين الأَسرار التي لم تُكشَف بعدُ في حياته. وفيها أَن بيتهوفن لم يسجِّل هو تلك المقطوعة ولم يكتب بخطه اسم إِيليز. لذا رجَّح الخبراء أَنها مهداة إِلى السيدة الشابة تريز مالفاتِّي (1792-1851) من فيينا، وأَن الحب بينهما لم يكن متبادَلًا بل من طرفه هو فقط، لذا أَهداها تلك المقطوعة جاعلًا البيانو رسوله إِليها.
من هي تريز مالفاتّي؟
يرى العالم الموسيقي الأَلماني ماكس أُونغِر (1883-1959) أَن الناشر لودفيك نُوهْل قد يكون نسَخَ الاسم خطأً من المخطوطة الأَصلية السيئة الخط وقد يكون بيتهوفن كتب “إِلى تريز” أَي إِلى تريز مالفاتّي تلميذة بيتهوفن سنة 1810 وأَحبَّها لكنها رفضت الزواج منه ولاحقًا تزوَّجت السياسي النمساوي ولهِلْم فون دروسْديك سنة 1816.
هل هي تريز أُخرى؟
في أَبحاث أَخيرة أَن بيتهوفن قد يكون أَهداها إِلى الكونتيسة تريز فون برنسويك التي ورث محفوظاتها العالمُ الموسيقي النمساوي مايكل لورنز (م.1959) ذاكرًا أَن رودولف شاخْنِر (وارث محفوظات الكونتيسة سنة 1851) هو ابن بابيت بْرِدْلْ التي كانت المخطوطة لديها، وكانت سنة 1865 سمحَت للودفيك نوهْلْ نسخها، وقد يكون نسَخَ خطأً اسم “إِلى تريز” من خط بيتهوفن غير الواضح، فجعَلَه “إِلى إِيليز”، وأَكَّدَ الأَمرَ الدكتور روبرت غرينبُرغ أُستاذ الموسيقى في كونسرفاتوار سان فرنسيسكو.
… ومن هي إليزابيت روكِل؟
في بحث أَجراه سنة 2010 المؤَلف الموسيقي والباحث الموسيقي الأَلماني كلاوس مارتن كوبيتْز (م. 1959) أَن تلك المقطوعة أَهداها بيتهوفن إِلى ابنة السابعة عشرة السوبرانو الأَلمانية إِليزابيت روكِل (1793-1883) الشقيقة الصغرى للتينور جوزف أُوغست روكِل (1783-1870) وهو سنة 1806 لعب دور “فلورستان” في أُوبرا “فيديليو” لـبيتهوفن. وكانت إليزابيت تُنادَى تحبُّبًا بــ”إيليز” (تصغير إيليزابيت) وكان بيتهوفن سنة 1806، وفق ما رجَّح كوبتز، يريد الزواج منها. سوى أَن إِيليزابيت في نيسان/أَبريل 1810 وقَّعت عقدًا مع مسرح في بامبرغ (منطقة بافاريا الأَلمانية) لتلعب دور “دونا ماريا” في أُوبرا موزار “دون جيوفاني”، ثم عادت إِلى فيينا وتزوَّجَت سنة 1813 المؤَلف الموسيقي وعازف البيانو النمساوي جوهان هول (1778-1837) وكان صديق بيتهوفن. ونشر كوبيتْز سنة 2015 بحثًا أَورد فيه رسالة كتبَتْها سنة 1830 آنَّا هوبْتْمان صديقة إِيليزابيت، ونادتْها فيها بــ”إيليز”، ما يرجَّح أَنها هي المقصودة بإِهداء بيتهوفن “إِلى إِيليز”. وعاد كوبيتْز يؤَكِّد الأَمر ذاته في بحثٍ لاحق سنة 2020.
ويبقى كل هذا في الترجيح، لأَن المخطوطة لم تَصدر منشورةً على حياة مؤَلفها بل لاحقًا، ومن الممكن أَنها ليست مهداة إِلى إِيليز ولا حتى إِلى تريز، وليس في الظن أَن بيتهوفن عَنوَنَها لسيدة معيَّنة، بل أَعطاها اسمًا عامًّا ليس ضروريًّا أَن يكون لامرأَة موجودة بهذا الاسم. وهذا أَيضًا في الافتراض، وتبقى هذه المخطوطة من الأَسرار التي غيَّبَها بيتهوفن معه عند وفاته.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.