حانَ الوَقتُ لمُواجَهَةِ التهديداتِ التي يَتَعَرَّضُ لها النظام الدولي
كابي طبراني*
مع تَمدُّدِ النظام الدولي ووصوله إلى نقطةٍ خطيرة، فإنَّ إحدى الأصول الاستراتيجية الأكثر هشاشَةً والسريعة العطب التي يُمكِنُ لأيِّ دولةٍ تجميعها هي الشرعية الأخلاقية. بالنسبة إلى الحكومات الأوروبية والأميركية التي صدمها الغزو الروسي لأوكرانيا، فمن المُحبِطِ للغاية أنَّ المجتمعات في آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا –التي غالبًا ما توصَفُ معًا بأنها جُزءٌ مما يُسَمّى “الجنوب العالمي”- لا تشعرُ بالغضب الأخلاقي نفسه بشأن الحرب العدوانية التي شنّها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ومن جانبٍ آخر، في الشرق الأوسط وجُزءٌ كبير من أفريقيا، أدّى الغضبُ الشعبي إزاء العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة ردًّا على هجوم “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، والتي ترقى إلى مستوى العقاب الجماعي للشعب الفلسطيني بأكمله، إلى اتهاماتٍ بازدواجيةِ المعايير الغربية، في بيئاتٍ عادةً ما تكون صديقة للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مثلما هو الحال مع تلك المُعادية للغرب.
مع استمرارِ تَركيزِ اهتمام العالم على أوكرانيا وغزّة، فإنَّ صراعاتٍ أُخرى تُشَكِّلُ سوابق من شأنها أن تزيدَ من تآكلِ القيود الأخلاقية والقانونية المفروضة على الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية. في منتصف كانون الأول (ديسمبر)، شجّعت النجاحات العسكرية التي حققتها “قوات الدعم السريع” التابعة لمحمد حمدان دقلو في السودان ضد منافسيه في الجيش السوداني، العديد من الحكومات في أفريقيا والشرق الأوسط على التقرّب من شخصيةٍ مُتَوَرِّطة في القتل الجماعي لمجتمعاتٍ قبلية وعرقية مُتنافسة لأكثر من عقدَين. وبعد أسبوعين، قام رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بمناورةٍ مُفاجئة للحصول على ميناءٍ بحري لإثيوبيا من خلال صفقةٍ مع “أرض الصومال” تتضمّنُ وعدًا غامضًا بالاعتراف الديبلوماسي الإثيوبي بشبه الدولة –التي انفصلت عن الصومال قبل 20 عامًا ولا تزال غير مُعتَرَف بها بموجب القانون الدولي– مُقوِّضًا معايير السيادة الإقليمية التي حالت دونَ نشوبِ حربٍ أوسع بين دولٍ عدة في جميع أنحاء أفريقيا.
لقد ساهمت كلُّ القوى الإقليمية والعالمية الكبرى بطريقةٍ أو بأخرى في الاختلالات البنيوية التي غَذّت غَرَقَ السودان في الصراع وإثيوبيا في التحريفية والرجعية. وسواءَ في الغرب أو في “الجنوب العالمي”، تواطأت الدول التي تسعى إلى تحقيق مصالح قصيرة الأجل مع مُستَبدّين وحشيين وقادةِ ميليشياتٍ أشرارٍ الذين سحقوا جهود حركات المجتمع المدني للدفاع عن سيادة القانون.
في السودان ما بعد الحرب الباردة، مَكّنَت قائمةٌ طويلة من الدول قادةَ الميليشيات الصغيرة في البداية مثل دقلو، المعروف باسم حميدتي، من حَشدِ القوة المالية والعسكرية للتغلّب على الضباط السودانيين المُتَصَلِّبين. وبحلول العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عملت الولايات المتحدة على عَزلِ الخرطوم بسبب حروبها الوحشية ضد المتمرِّدين وموقفها المُتراخي تجاه الجماعات الإرهابية الدولية في عهد الرئيس عمر البشير آنذاك. ومع ذلك، على الرُغم من هذه الجهود، فإنَّ الاستثمارَ الخاص من دول الخليج، وكذلك صفقات النفط مع الصين، ضَمَنا تدفّقَ الإيرادات اللازمة لتمويل الجماعات المُسَلَّحة التي بدأ حميدتي حياته المهنية من خلالها. بحلولِ مُنتَصَفِ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان عدمُ رغبة الاتحاد الأوروبي في إلقاءٍ نظرةٍ فاحصة على كيفية استخدام النظام السوداني فعليًا للتمويل الذي قدّمته بروكسل لدورياتِ الحدود، فضلًا عن استعداد الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية لدفع مبالغ ضخمة علنًا لحميدتي مقابل توفير الرجال من “قوات الدعم السريع” للقتال في حربهما في اليمن، مَكّناه من تحويل ميليشيا إقليمية إلى إمبراطوريةِ أعمالٍ شبه عسكرية تمتدُّ شبكاتها عبر أفريقيا والشرق الأوسط وحتى أوروبا.
وفي حين أنَّ الفكرة الحمقاء التي تقول بأنَّ ما يحدثُ في السودان يبقى في السودان مَهَّدَت الطريق لصعود حميدتي، فإنَّ استعدادَ العديد من الدول لمَنحِ النُخَبِ الإثيوبية الثقة كان بمثابةِ انتصارٍ للأمل على الخِبرة. بعد سقوطِ نظام مَنغِستو هيلا مريام المُوالي للاتحاد السوفياتي في العام 1991، غالبًا ما غَضَّت واشنطن الطرف عن الفساد الصارخ وانتهاكات حقوق الإنسان هناك في سَعيها إلى التحالف الذي اعتقدَ صُنَّاعُ السياسة الأميركيون أنه سيُحَوِّلُ واحدة من أكبر الدول في إفريقيا إلى منارةٍ لديموقراطية السوق الحرة. وفي الوقت نفسه، اجتذب التفاؤل بشأن الإمكانات الاقتصادية لدولةٍ يزيد عدد سكانها عن 120 مليون نسمة استثماراتٍ من تركيا ودول الخليج والصين، وهي الموارد التي استغلّها آبي لتحقيق طموحاته بعد تولّيه السلطة في العام 2018.
المراحِلُ الأخيرة في طريق حميدتي وآبي نحو زعزعة استقرار النظام الإقليمي، وربما النظام العالمي الآن، تَكَشَّفت خلالَ موجةٍ قصيرة من التفاؤل بشأن فُرَصِ التغيير في السودان وإثيوبيا. لقد بدا أن الإطاحة بالبشير من خلال الاحتجاجات الجماهيرية في نيسان (أبريل) 2019 قد فتحت طريقًا نحو سيادة القانون في السودان. وأدّى الدورُ الذي لعبه آبي أحمد في إنهاء الصراع الحدودي بين إثيوبيا وإريتريا رسميًا إلى تعزيز الآمال في واشنطن بأنه قد يكون صاحب الرؤية التي يأمل المسؤولون في الغرب أن يقودَ أفريقيا إلى مستقبلٍ أفضل.
شَجَّعَت فترةُ الأمل القصيرة هذه المسؤولين في الغرب بشكلٍ خاص على الوَعدِ بتقديمِ الدَعمِ الثابتِ للجهود الرامية إلى مُتابعةِ الإصلاح الاقتصادي والسياسي الدائم في جميع أنحاء القرن الأفريقي. ومع ذلك، في غضونِ أقل من عامين، أطفأت مناورات حميدتي وآبي ومنافسيهما شموع هذه الآمال. في تشرين الأول (أكتوبر) 2021، تواطأت “قوات الدعم السريع” والجيش السوداني في الإطاحة بالحكومة الانتقالية التي يقودها المدنيون في السودان بعد البشير، وفي قَمعِ شبكةِ المجتمع المدني المُكَوَّنة من مجتمعات الأحياء التي فعلت الكثير لتشجيع التعاون عبر الطبقات والقبلية والعرقية. قبل عام، استخدم آبي توطيد سلطته لإطلاقِ حَربٍ ضد النُخَبِ الإقليمية في تيغراي، التي كانت في السابق شريكته السياسية، ثم الإنتصار فيها بعدَ انتكاساتٍ أوليّة.
وبعد أن نَجَوَا من التحدّيات التي كان من الممكن أن تُطيحهما، أظهرَ حميدتي وآبي أحمد خلال العام الفائت استعدادًا لخَوضِ مُقامراتٍ محفوفةٍ بالمخاطر لتحقيقِ طموحاتٍ لا حدودَ لها على ما يبدو. اعتمد حميدتي على موارد مالية هائلة وعقد صفقات مع قوى إقليمية مثل دولة الإمارات للانقلاب على شركائه السابقين في الجيش السوداني في نيسان (أبريل). وعلى الرُغم من أنه لا يزال يواجه ميليشيات “أمهرة” وتمرّدًا عرقيًا في إقليم “أوروميا”، نجح آبي في إبرامِ صفقةِ استئجار الميناء مع “أرض الصومال” بطُرُقٍ تُعزّزُ الأحلامَ القومية، وربما حتى الإمبريالية، في الحصول على قوةٍ بحرية.
ومع ذلك، على الرُغم من المذابح التي خلّفها حميدتي وآبي أحمد في أعقابهما، واصلت الجهات الخارجية عقد الصفقات معهما. وحتى مع تزايد الأدلّة على الفظائع التي ترتكبها “قوات الدعم السريع” ضد المدنيين، التقى حميدتي بالقادة في أوغندا والإمارات وكينيا وإثيوبيا وجنوب أفريقيا كما لو كان بالفعل رئيس دولة السودان. ومن جهة أُخرى، أثارَ اتفاقُ آبي بشأن استئجار الميناء والذي يُهدّد بإعادة رسم الحدود الدولية، الغضب ليس فقط في الصومال ولكن حتى بين الكثيرين من سكان “أرض الصومال” الذين لا يثقون في النوايا الإثيوبية، لكنه لم يكن له بعد تأثيرٌ جدّي على علاقاته مع الدول الأخرى.
إذا سعى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى القيام بما هو أكثر من تعثّرهما الديبلوماسي الحالي بشأن هذه التطورات، فيتعيَّن عليهما تجنّب الوقوع في فخِّ العَمَلِ ببساطة مع أعداءِ عدوّهما لتحقيق مكاسب قصيرة الأجل. في حين أنَّ طموحَ حميدتي “الكل أو لا شيء” يُهدّدُ بتدمير السودان بشكلٍ دائم، فمن الأفضل للغرب في المدى الطويل أن يدعمَ المُعارضة المدنية السودانية ولجانَ الأحياء المتعثّرة بدلًا من منافسيها غير الديموقراطيين في الجيش السوداني. على الرُغم من أنَّ آبي تجنّبَ إلزام أديس أبابا بشكلٍ كامل بالاعتراف باستقلال “أرض الصومال”، إلّا أنَّ قدرته على استغلال رغبة “أرض الصومال” في الحصولِ على الاعتراف تُشيرُ إلى أنَّ إيجادَ طُرُقٍ لمُساعدة “أرض الصومال” على التوصّلِ إلى اتفاقيات أكثر رسمية مع الصومال هو نهجٌ أفضل للغرب من السماح بتصعيدِ مواجهةٍ أوسع نطاقًا.
إنَّ التمسّكَ بالضرورات الأخلاقية مع احترامِ القانون الدولي يُمكِنُ أن يكونَ مُكلِفًا وصَعبًا، ولكن بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكذلك بالنسبة إلى الديموقراطيات الأفريقية مثل كينيا وجنوب أفريقيا، فمن المرجّح أن يؤدّي ذلك إلى تعزيزِ الاستقرار في المدى الطويل بدلًا من السياسة الواقعية القائمة على المساومة التي تتمثّلُ في انغماس المقامرين والمغامرين والجزَّارين. وهذا يعني الاعتراف بالأهمية الأخلاقية والقانونية لمساعدة أوكرانيا في كفاحها من أجل الصمود ضد الحكم الاستبدادي الروسي الوحشي، في حين يؤكّد أيضًا على أنَّ أيَّ عمليةٍ عسكرية ضدّ “حماس” تتجاهل بشكلٍ كامل حُرمةَ حياة المدنيين، مهما كانت الحاجة إلى نزع سلاحها، غير مقبولة. ولكنه يعني أيضًا الإدراك بأنَّ تجاهُلَ مثل هذه الضرورات الأخلاقية والقانونية في مواجهة فظائع حميدتي وبناء إمبراطورية آبي أحمد ستكون له آثارٌ كارثية بالقدر عينه على النظام العالمي.
يبدو أن حميدتي يسير، حتى الآن، على الطريق الصحيح لهزيمة الجيش السوداني. لكنَّ الاشتباكات المفتوحة بين الفصائل المتناحرة داخل ائتلاف الميليشيات تُشيرُ إلى أنه في اللحظة التي يتعثّر فيها، يُمكِنُ أن ينهارَ بيته بالكامل بطُرُقٍ من شأنها أن تُسقِطَ معه جُزءًا كبيرًا من السودان. وإذا تمكّنَ من الحفاظ على قبضته على إمبراطوريته شبه العسكرية، فمن المرجح أن يسعى حميدتي إلى تحقيقِ طموحاتٍ أكبر بكثير في جميع أنحاء أفريقيا بطُرُقٍ قد تكون مُدمّرة مثل تصرفّات المستبدّين الطموحين السابقين، مثل الزعيم الليبي السابق معمر القذافي.
وعلى نحوٍ مُماثل، إذا كان استعدادُ آبي أحمد للمقامرة بمعايير السيادة ناجحًا، فقد يتسبّبُ في متاعب أكبر بكثير للنظام العالمي تتجاوز مجرد حربٍ أخرى غير مُجدية بين إثيوبيا وإريتريا والصومال. إن إعادةَ رَسمِ الحدود من جانبٍ واحد والتي هندستها جارةٌ أكبر، والشراكة الرسمية مع “أرض الصومال” في غياب الصفقات الضمنية مع الصومال لتجنّب التصعيد، من الممكن أن تُغري دولًا أخرى بملاحقة أجنداتٍ تحريفية ورجعية كان قمعها حتى الآن واحدًا من النجاحات الجيوسياسية القليلة التي حقّقتها أفريقيا. وهذا النوع من إعادة كتابة الحدود يُمكِنُ أن يُحَوِّلَ المعارك بالوكالة بين دولٍ مثل رواندا وجمهورية الكونغو الديموقراطية إلى حروبٍ مباشرة أكثر تدميرًا بين الدول.
يحتوي التاريخ الحديث على العديد من الأمثلة على الصراعات التي لم تحظَ بالاهتمام الكافي حتى أدّت الاتجاهات التي أنذرت بها إلى تعطيل العالم الأوسع، ويرجع ذلك جُزئيًا إلى أنَّ القوى العالمية والإقليمية غالبًا ما تختار النفعية قصيرة المدى عندما تواجه مثل هذه اللحظات من الأزمات، بدلًا من استراتيجيات طويلة المدى مَبنِيّة على الضرورات الأخلاقية والقانونية. ومع ذلك، إذا لم يتمّ بذلُ الكثير لكَبحِ جماحِ الطموح اللامحدود لحميدتي وآبي أحمد وغيرهما من أمثالهما، فلن يتبقّى الكثير من النظام الدولي الذي يُمكِنُ إنقاذه.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani