أبعِدوا السياسةَ عن نَهجِ التنمية في الأمم المتحدة
كابي طبراني*
في أعقابِ قمّة “أهداف التنمية المُستدامة” في أيلول (سبتمبر) الفائت، نشرت الأمم المتحدة ورقةً توجيهيّة بعنوان “التحوّلات الستة”، لتحديد “مسارات الاستثمار” الحاسمة التي ستكون أساسية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة بحلولِ العام 2030. ووفقًا لورقة الأمم المتحدة ستكون لهذه المسارات الحاسمة “تأثيرات مُحفّزة ومُضاعِفة” عبر جميع أهداف التنمية المستدامة. وتوصي بالتركيز على النُظُمِ الغذائية، والحصول على الطاقة والقدرة على تحمل تكاليفها، والاتصال الرقمي، والتعليم، والوظائف والحماية الاجتماعية، وتغيّر المناخ، وفقدان التنوّع البيولوجي والتلوّث.
نظرًا للتحديات الاقتصادية والجيوسياسية العالمية الحالية، فإنَّ إعادةَ تركيز الجهود والموارد نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة –وهي مجموعة من 17 هدفًا إنمائيًا عالميًا تم الاتفاق عليها في العام 2015 لضمانِ ظروفٍ أكثر صحّةً وأكثر إنصافًا وشمولًا ومُستدامة بيئيًا للجميع– خطوةٌ إيجابية وضرورية. ولكن إذا كان لأهداف أجندة 2030 أن تتحقّق، ولو جُزئيًا، فيتعيَّن على مُخَطّطي التنمية وصنّاع السياسات في الأمم المتحدة أيضًا أن يُعيدوا التفكير في الأُسُسِ السياسية والإيديولوجية للتعاون الإنمائي الدولي.
يُمكنُ إرجاعُ النموذج الحالي للتعاون الإنمائي إلى نهاية الحرب الباردة. شكّلت تلك الفترة نقطةَ تحوّلٍ أساسية للأمم المتحدة، التي رأت أن الشروط الأساسية للإجماع الليبرالي المُتَوَسِّع في حينه تتوافق بشكلٍ وثيق مع تطلعاتها الخاصة للسلام والأمن الدوليين، ومع المعايير الأساسية للتنمية وحقوق الإنسان الواردة في ميثاق الأمم المتحدة. وقد وفّرَ الواقع الجديد المُتمثّل في الانفراج الجيوسياسي، وتقلّص الترسانات النووية وموازنات الدفاع، وتوسيع الأسواق، وانتشار الديموقراطيات، الخلفية لخطة الأمم المتحدة للسلام في العام 1992.
في الوقت نفسه، ارتفعت أيضًا بشكلٍ مضطرد تدفّقات مساعدات التنمية الدولية، سواء على المستوى الثنائي أو من خلال الأمم المتحدة. لقد ارتفعت مساعدات التنمية الخارجية العامة والخاصة من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من 11.6 مليار دولار في العام 1990 إلى 27.8 مليار دولار في العام 1999. وفي هذا السياق، تمكّنت الأمم المتحدة من الدعوة بثقة إلى معايير التنمية العالمية، مع صدور تقرير التنمية البشرية الأول في العام 1990، وتلاه برنامج الأمم المتحدة للتنمية في العام 1995 والأهداف الإنمائية للألفية في العام 2000، والتي سبقت أهداف التنمية المستدامة.
في هذا السياق، نمت طموحات سياسات التنمية بشكل مطرد وأصبحت أكثر تنوّعًا. وبالانتقال إلى ما هو أبعد من التعاون التقني، فإنَّ برامج الأمم المتحدة الإنمائية كانت تسعى وقتها ليس فقط إلى تقديم الأموال والخبرة الفنية إلى البلدان المُستَقبِلة، بل وأيضًا إلى نقل القِيَمِ والمعايير والتغيّرات المؤسّسية والمُجتمعية التي من شأنها ترسيخ السلام والحُكمِ الرشيد في نظامٍ ليبرالي ناشئ. لقد فعلت ذلك جُزئيًا من خلال تشجيع الانخراط العالمي للمنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني وتسويقها كبديلٍ تعدّدي للتعاون التقليدي الذي يتمحور حول الدولة. ومن جانبها، قدمت هذه المنظمات نطاقًا واسعًا من الرسائل الإيديولوجية حول المشاركة السياسية والاندماج الاجتماعي والحقوق الديموقراطية، وعُمقًا في التغلغل الاجتماعي، لم يكن مُتاحًا من قبل.
بالتوازي مع ذلك، بدأ مخططو التنمية أيضًا بمحاولة “إصلاح الدول الفاشلة” من خلالِ دَعمِ الإصلاحِ الدستوري والانتخابات، وتحديث قطاعَي الأمن والعدالة، وتحسين إدارة القطاع العام، وإدارة الضرائب، وتحرير الأسواق، وخصخصة أصول الدولة، واللامركزية، والإصلاح المالي. وكما أشار الباحث والأكاديمي الكندي “مارك سيدرا” أخيرًا، خلال هذه الفترة، أصبح بناء الدولة “شرطًا لا غنى عنه لمشروع بناء السلام الليبرالي”.
إنَّ استخدامَ مؤسّساتِ الدولة والمؤسّسات المدنية كأحزمة نقل للتغيير السياسي لم يكن من دون انتقادات. ولكن طالما سادَ الإجماع الدولي الكافي حول النموذج الليبرالي للحَوكَمة العالمية، فإنه يظلُّ دعامةً لجهود التنمية الدولية.
مع ذلك، إذا كانَ الإجماعُ الليبرالي لا يزال موجودًا اليوم، فإنه لم يعد بإمكانه أن يَطمَحَ إلى العالمية، كما يفعل ميثاق الأمم المتحدة. وفي سياقٍ جديد من القومية الصاعدة والعسكرة المُتَجَدّدة، يُشكّلُ الحديثُ عن رؤى بديلة من الحَوكَمة العالمية تحدّيًا جوهريًا للنموذج الليبرالي للعَولَمة، الذي وصفته إحدى الدراسات الحديثة بـ”التنافس على مستقبل النظام الدولي”. وتدفع هذه المنافسة أيضًا إلى ظهور روايات تنموية مُتنافِسة، بما في ذلك إطار مبادرة التنمية العالمية الذي كشفت عنه الصين أخيرًا.
سوف تستمر البلدان المانحة في تقديم مساعدات التنمية، وسوف تستمر البلدان المُستَقبِلة في تلقّيها، ولكن ليس بالشروط السياسية عينها التي كانت عليها من قبل. إنَّ موازنات التنمية الغربية تنخفض وتتقلّص مع تحويل الأموال إلى الإنفاق العسكري والإنساني في بيئةٍ جيوسياسية أكثر انقسامًا. لقد أصبحت المساعدات أقل تعدّدًا وأكثر توافقًا مع المصالح الوطنية والأولويّات السياسية المحلية للحكومات المانحة. وبما أنَّ العديدَ من الدول المُتَلَقِّية أصبحت أقل ثقة في النماذج الليبرالية وتُفكّر بشكلٍ علني في الروايات والسرديات البديلة، فمن المرجح أن يتمَّ التعاونُ الإنمائي في طريقةٍ أكثر قسوة وأكثر تنافسية وأكثر “ثنائية”. في الواقع، وفقًا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، في حين نما إجمالي مساعدات التنمية الخارجية في السنوات الخمس بين العامين 2016 و2020، فإن المساعدات الثنائية نمت بسرعة أكبر بأربع مرات من المساعدات المتعدّدة الأطراف.
إنَّ التقدّمَ البطيء حتى الآن في تحقيق أهداف التنمية المستدامة يعني أنَّ احتياجات التنمية الأساسية ستستمر لفترةٍ طويلة في المستقبل. ولكن مع تضييق الحَيِّز الليبرالي، سيحتاج المخطّطون وصانعو السياسات في الأمم المتحدة إلى حمايةِ برامجهم التنموية من النموذج الليبرالي المُتنازَع عليه بشكلٍ متزايد –وربما يتلاشى– في مرحلةِ ما بعد الحرب الباردة. سيؤدي الفشل في القيام بذلك، مع مرور الوقت، إلى تعريض حيادية برامج الأمم المتحدة وجاذبيتها ومدى انتشارها الجغرافي للخطر.
ولزيادةِ فُرَصِ تحقيقِ أهداف التنمية المستدامة، سيكون من الضروري فصل الدعم المُقَدَّم لتطوير قطاعات الصحة والتعليم والمياه والزراعة عن الأهداف السياسية الأوسع للديموقراطية والسلام وبناء الدولة. وبدلًا من ذلك، ينبغي للجهود المبذولة في هذه المجالات أن تمضي قُدُمًا في تلبية الاحتياجات التقنية.
وهذا لا يعني أنَّ الأمم المتحدة يجب أن تتخلّى عن تعزيزِ السلام والحقوق والديموقراطية. بل على العكس، فإنَّ ولاياتها الأساسية تتطلّب منها العمل بنشاطٍ وبدون لبسٍ من أجل السلام والأمن الدوليَين والاحترام العالمي لحقوق الإنسان. لكن الأمم المتحدة لديها آليات أخرى راسخة لتعزيز التغيير السياسي إلى جانب برامجها التنموية. لا ينبغي ربطُ السياسة والمساعدات معًا في مزيجِ البرامج نفسه. من الممكن أن يؤدي التمييز الواضح بين الأدوار بين الهيئات المعيارية والتشغيلية التابعة للأمم المتحدة إلى زيادة قبول المساعدات وفعاليتها.
قد ينتقدُ البعض “عدم تسييس” مساعدات التنمية هذا باعتباره تنازُلًا عن المعايير والقِيَمِ الأساسية، على نحوٍ قد يُنظَرُ إليه بأنه انحيازٌ إلى أحد الجانبين في المنافسة الجيوسياسية الجارية الآن. بدلًا من ذلك، كما هي الحال مع أجندة المناخ، فإنَّ الأمرَ يتعلّقُ برفع أهداف التنمية فوق النزاع الجيوسياسي الحالي، وبالتالي الحفاظ على مساحةٍ واسعة لتلبية الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية للاقتصادات النامية في العالم. وسيكونُ هذا النهجُ المُحايد القائم على الاحتياجات ذا أهمية خاصة بالنسبة إلى العمل التنموي الذي تقوم به الأمم المتحدة.
تشيرُ ورقة “التحوّلات الستة” الصادرة عن الأمم المتحدة أصلًا إلى نَهجٍ أضيق في التعامل مع التنمية. لا يوجد فيها أيُّ ذكرٍ للهدف 16 من أهداف التنمية المستدامة، على وجه الخصوص، الذي يدعو إلى “السلام والعدالة والمؤسسات القوية”. إن مساراتها الست مادية وليست معيارية، كما إنَّ “أدواتها السياسية” تقنية. ولكن ترجمة السياسة إلى ممارسة عملية سوف تتطلب جهودًا مُتضافِرة لتحويلِ عَقليةِ جيلٍ من المُخَطّطين والمُبرمِجين في الأمم المتحدة بعيدًا من الأهداف الطموحة للتحوّلِ السياسي في البلدان ذات الاقتصادات النامية، ونحو شكلٍ أبسط وأكثر تواضعًا من الدعم.
وبدون ما يمكن اعتباره “الانتقال السابع”، فإنَّ احتمالات الاستفادة من الأهداف الستة الأخرى لتحقيق أهداف التنمية المستدامة بحلول العام 2030 قد تصبح أضيق بشكلٍ كبير.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani