تَجريدُ الفلسطينيين من الإنسانية والافتقارُ إلى التَعاطُفِ معهم أمران مُثيران للقلق، وخطيران

خالد الجندي*

إنَّ حجمَ ووحشية الهجوم المروّع الذي شنته حركة “حماس” على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، والذي قُتِلَ فيه ما لا يقل عن 1300 رجل وامرأة وطفل إسرائيلي بوحشية، قد أثار تدفّقًا هائلًا من التعاطف والتضامن مع إسرائيل من جميع أنحاء العالم، وخصوصًا في الولايات المتحدة وأوروبا والدول الغربية الأخرى.

في الوقت نفسه، يموت الفلسطينيون في غزة بأعدادٍ كبيرة بشكلٍ مثير للقلق. ردًّا على الهجوم الإرهابي الجماعي، شنّت إسرائيل قصفًا جويًا مُكثّفًا على غزة، وهو القصف الأكثر تدميرًا الذي شهده القطاع المحاصر منذ وقت طويل. وقد قُتل حتى الآن2836 قتيلًا، بينهم أكثر من 800 طفل، وأُصيبَ 11,181 فلسطينيًا آخرين. وقد تمت تسوية أحياء بأكملها بالأرض، ما أدّى إلى نزوح أكثر من 600 ألف شخص داخليًا.

مع ذلك، لم يكن هناك تدفّقٌ مُماثل من التعاطف مع الفلسطينيين. في الواقع، قاومت الولايات المتحدة والقوى الأوروبية الدعوات الرسمية لوقف إطلاق النار أو حتى التعبير عن القلق بشأن المدنيين الفلسطينيين، ما أعطى إسرائيل فعليًا الضوء الأخضر لإجراء عمليتها العسكرية على النحو الذي تراه مناسبًا. وحتى قرار إسرائيل بقطع كل المياه والغذاء والوقود والإمدادات الطبية عن غزة – الذي يُعتَبَرُ جريمة حرب خطيرة بموجب القانون الدولي وهو أمر وصفه المسؤولون الغربيون في أماكن أخرى بأنه “أعمالٌ إرهابية خالصة”- لم يُثِر أيَّ احتجاجات من جانب الحكومات الغربية وحتى دفاعًا في بعض الأحيان.

وحتى المظاهر العلنية للتعاطف أو التضامن مع الضحايا الفلسطينيين تُعتَبَرُ خارجة عن المألوف، ويُدينُها المسؤولون الأميركيون المُنتَخَبون على نطاق واسع باعتبارهم “قاسيي القلب” أو حتى مؤيدين للإرهاب. وفي بيئة السياسة الأميركية ذات المحصلة الصفرية، فإن الضحايا الإسرائيليين وحدهم هم الذين يستحقّون الاعتراف.

الرسالة واضحة: حياة الفلسطينيين ومعاناتهم وإنسانيتهم أقل قيمة من حياة الإسرائيليين ومعاناتهم وإنسانيتهم. إنَّ عَدَمَ القدرة الأساسية للمسؤولين الأميركيين والغربيين الآخرين على التعبير عن التعاطف مع الفلسطينيين أو الاعتراف بمعاناتهم أمرٌ مثيرٌ للقلق وخطيرٌ في الوقت نفسه بالنظر إلى ما تستطيع إسرائيل القيام به وما تقوم به أصلًا على الأرض.

وكان الرئيس بايدن على وجه الخصوص، الذي كان تضامنه الصادق مع الإسرائيليين واضحًا، جَلِيًّا في عدم قدرته على التعبير عن أيِّ نوعٍ من التعاطف تجاه الفلسطينيين – وهو أمرٌ تمكّنَ حتى جورج بوش الإبن من فعله خلال أسوَإِ أيام الانتفاضة الثانية. والأمرُ الأكثر إثارة للقلق هو الخطابُ المُهين للإنسانية، بل وحتى الإبادة الجماعية، من جانب القادة الجمهوريين من أجل “تسوية المكان” أو الإشارة إلى الفلسطينيين ب”المتوحشين” الذين “يجب استئصالهم”. إنَّ الحقائقَ التي تقول إن الهجمات وقعت في سياق العنف الهيكلي العميق الناجم عن حصارٍ خانقٍ عمره 16 عامًا و56 عامًا من الاحتلال العسكري الإسرائيلي، وكل ما ينطوي عليه من إهانات وحرمان، يتم رفضها باعتبارها غير ذات صلة في أحسن الأحوال أو غموضًا أخلاقيًا في أسوإِ الأحوال.

في الواقع، لقد قيل لنا إنه لا يوجد “تكافؤٌ أخلاقي” عندما يتعلق الأمر بقتل الأبرياء والحق الأساسي في الدفاع عن النفس. وفي حين أن هذا صحيح بالتأكيد من حيث المبدَإِ، فإنَّ تحديدَ ما يُعتَبَرُ أو لا يُعتَبَرُ “أخلاقيًا” عادة ما يعتمد بشكلٍ أقل على تصرفات الأطراف بقدر ما يعتمد على هوياتهم. وهكذا، على حد تعبير بايدن، “الإرهابيون… يستهدفون المدنيين عمدًا”، في حين أنَّ الديموقراطيات مثل الولايات المتحدة وإسرائيل “تلتزم بقوانين الحرب”. بعبارةٍ أخرى، فإن الإسرائيليين، على النقيض من الفلسطينيين، غير قادرين على ارتكاب الفظائع بحكم هويتهم -وهي فكرة غير تاريخية وعنصرية في الأساس. علاوةً على ذلك، فإن الدفاع عن النفس ليس غير محدود – كما نعلم من سجل إسرائيل خلال هذا الصراع والصراعات السابقة، بما في ذلك القصف العشوائي، والتجاهل المتهور للمدنيين، واستخدام الأسلحة المحظورة وجرائم الحرب الأخرى.

إن البيئة الحالية مُهَيَّأة بشكلٍ خاص لارتكاب فظائع، نظرًا إلى الكثافة غير المسبوقة للهجوم الإسرائيلي المستمر على غزة والخطاب التحريضي للقيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية بدافع مزيجٍ من الصدمة والإذلال والرغبة المُعلنة في “الانتقام”. عندما يشير وزير الدفاع الإسرائيلي إلى مليوني فلسطيني في غزة بأنهم “حيوانات بشرية”، فإنَّ أيَّ شيء وكلَّ شيءٍ يصبح ممكنًا. وعلى نحوٍ مُماثل فإن التهديدات التي يطلقها قادة إسرائيل بتحويل غزة إلى “جزيرة مهجورة” أو أن “غزة سوف تتحول إلى مدينة خيام” لا بد وأن تؤخذ على محمل الجد، وخصوصًا عندما تمتلك إسرائيل السُبُل والدافع لتحقيق أهدافها.

عدم وجود غضب إزاء الأمر الإسرائيلي الأخير الذي يقضي بإخلاء جميع سكان شمال غزة، أكثر من مليون شخص، وحثّهم على التوجه إلى جنوب القطاع، وهو ما يعتبره الكثيرون خطوة نحو الطرد الجماعي ومقدمة للوفاء بوعد “تسوية غزة بالأرض” تؤكد مكانة الفلسطينيين باعتبارهم مجموعة “أقل من” بشر.

لا شك أن المسؤولين الأميركيين والأوروبيين، الذين يعتبرون أنفسهم أبطالًا للقيم الليبرالية والمساواة، سوف يشعرون بالاستياء من الإشارة إلى أنهم يعطون قيمة أكبر لحياة بعض الأشخاص على حساب حياة آخرين. ولكن كيف يمكننا أن نُفَسِّرَ لامبالاة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تجاه استخدام إسرائيل للمجاعة والعطش كسلاح، أو قدرتهم على تأييد القتل العنيف لثمانمئة طفل تحت الشعار المجهول “أضرار جانبية”؟ أو إلى الحصار المستمر منذ 16 عامًا، والذي، وفقًا للأمم المتحدة، جعل غزة بالفعل “غير صالحة للعيش”؟ أو مدى السهولة التي تم بها نشر المزاعم التحريضية والكاذبة المتعلقة بأطفالٍ مقطوعي الرأس وعمليات اغتصابٍ جماعي بدون انتقاد من قبل وسائل الإعلام والمسؤولين الأميركيين والغربيين، بما في ذلك الرئيس نفسه.

ومع ذلك، فإن الرحمة والتعاطف ليسا سلعتين محصلتهما صفر. من الممكن أن نحزن ونكرم المئات من النساء والأطفال والرجال الإسرائيليين الذين قُتلوا أو جُرحوا في الهجوم الوحشي الذي وقع يوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) من دون التقليل في الوقت نفسه من قيمة حياة الفلسطينيين ومعاناتهم وإنسانيتهم الأساسية. في الواقع فإنَّ أيَّ استجابة فعّالة للأزمة الحالية تتطلب منا أن نفعل ذلك.

  • خالد الجندي هو مدير برنامج فلسطين والشؤون الفلسطينية الإسرائيلية في معهد الشرق الأوسط في واشنطن وأستاذ مساعد في الدراسات العربية في جامعة جورج تاون.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى