“النبي” ترجمة جديدة؟؟ لِـمَ؟
هنري زغيب*
صحيح.. ترجمة جديدة؟ لِــمَ؟ أَيُّ إِضافةٍ فيها عن شقيقاتٍ لها سابقات؟
لم يؤَرِّقْني هذا التساؤُل وأَنا في غمرة ترجمتي كتابَ “النبي” (صدَرَ هذا الأُسبوع عن منشورات “مركز التراث اللبناني” في الجامعة اللبنانية الأَميركية LAU). فالنصُّ المترجَم ليس ابنَ حقيقةٍ علْمية ثابتة لا حيادَ عن صوابيَّتها، بل هو وليدُ احتمالات في النص الأَصلي يتَّسع لها النص المنقول إِلى اللغة الجديدة خصوصًا حين هذه تكون، كالعربية، لغةً غنية بالمفردات والمرادفات والتورية والمجازات والاستعارات، ما يغْني قاموس المترجم حين هو متمكِّنٌ من لغته الأُم ومن لغة النص الأَصلي، فيُعطيه فسحةَ انطلاقٍ لا تتحدَّد بالـحَرفـيّ ولا تَجنَح إِلى خيانة الأَصل. من هنا اعتباري أَنَّ الترجمة ليست “ماذا نترجم” بل “كيف نترجم ماذا”.
لا أَصوغ هذا الأَعلاه لأُنَظِّرَ في الترجمة فَأَضعَ لها قواعدَ أَو نُظُمًا، بل لأَبسُطَ تجربتي الشخصية إِبان صياغتي ترجمةَ “النبي”. وهي تجربة أَنضَجها عمرٌ طُولُهُ نصفُ قرنٍ من التعاطي مع ترجمتي عددًا كبيرًا من الكتُب، ومراجعتي، تنقيحًا وتصويبًا، عددًا آخَر من ترجمات السوى، ما مكَّنني من تنصيع أُسلوبي وصقْله وتنقِيَةِ ما فيه من غبار وثرثرة وتراكيب عربية عتيقة مكرَّرة، بلوغًا إِلى الإِيجاز البليغ فيضيْءُ لائقًا بلغة العصر الحديثة، ضمن احترامٍ كاملٍ أُصولَ اللغة ونُظُمَها وقواعدَها.
ترجمتي كتابَ “النبي” مرَّت في مراحلَ ثلاثٍ:
- ترجمةُ المعنى: نقْلًا أَمينًا مضمونَ النص لا شكلَه ولا أُسلوبَه.
- الدخولُ إِلى “معنى المعنى”: وهو اختراقُ حجُب الكلمات بلوغًا مدلولَها الداخلي، عمقَها الآخَر. وفي هذا الدخول ترجمةُ فكْر جبران لا نصِّه، أَي نقْل أَفكاره لا لغتِه. فهو شاعر في نثره الجميل ولا يجوز نقْل شاعريته في ظاهرها السطحي بل في ما يرمز بها من معتقداتٍ لأَجلها أَو لأَجل أَكثرها وضَع هذا الكتاب. من هنا وجبَ أَن يكون النصُّ المنقولُ على المستوى الأَقرب إِلى تلك الشاعرية الجبرانية. وهذا هو الدخول إِلى “معنى المعنى”. فالترجمةُ الحرفية غالبًا ما تكون كاريكاتورية في مؤَدَّاها حين تَنقل حتى الصياغةَ من اللغة الأَصلية. الترجمة تنقُل فكرةَ كاتبِها لا أُسلوبَه ولا صياغتَه.
- تنصيعُ اللغة والأُسلوب: بعد هاتَين المرحلتَين أَعلاه (الأَمانة في نقْل المعنى، والدخول إِلى “معنى المعنى”) وجَدْتُني وفَّيتُ جبران حقَّه في إِيصال فكره إِلى القارئ، فكنتُ أُغلق النص الأَصلي وأَعمل وجهًا لوجهٍ على نصِّيَ العربي صقْلًا وتنصيعًا دون أَيِّ ابتعادٍ عن الأَصل الذي نقلتُ مضمونَه بالإِنكليزية، وبات الأُسلوب العربي مسؤُوليتي وحدي لأَن ترجمة الأُسلوب الجبراني الأَصلي يفكِّك نصَّه مترجَـمًا إِلى خلل واضح في العربية. فلكل لغةٍ عبقريتُها الخاصة. وإِذا تستحيل ترجمةُ عبقريةِ اللغة الأَصلية فالضروري الترجمةُ بعبقرية اللغة الجديدة. من هنا، في هذه المرحلة الثالثة (أَمام نصِّي العربيّ دون أَصله الإِنكليزي) لا تعود الكلماتُ العربية حروفًا أَمامي بل مَلامسَ پــيانو أَصوغُ بها أَنغامًا أَسمعها وأَنا أَتنقَّل من سطرٍ إِلى سطر، أُزغردُها بما يفي جبران معناه ويرضي مبناي.
الترجمة عندي ثمرةُ احتمالات، فلا رضًى كاملًا عن ترجمةٍ تظلُّ تحتملُ بعدُ صيَغًا أُخرى قد تكون جميعُها صالحةً وصحيحةً في النص الواحد. ومن الاحتمالات في الترجمة أَلَّا يقال إِن هذا النصَّ المترجَم أَصحُّ من ذاك بل إِنه أَقربُ إِلى الأَصل من ذاك، وإِنْ يكن الاثنان قريبَين من الأَصل. من هنا أَنْ لا ترجمةَ نهائيةً كاملةً لأَيِّ نص، خصوصًا حيال غنى العربية بالمفردات الدقيقة. ولذا لا صحيحَ حاسمًا في الترجمة بل احتمالاتٌ ضمن النص الواحد أَو المعنى الواحد. وهذا ما يجعلُ أَن الترجمة، في ذاتها، عملٌ إِبداعي.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).