“السُوْدا”: أقدم موسوعة قبل أكثر من 1000 سنة

صفحة قديمة من الموسوعة

هنري زغيب*

منذ مطالع دراستنا الثانوية اعتدنا أن نقرأ في تاريخ الآداب العالمية قصصًا ونصوصًا وأساطير من الميثولوجيا اليونانية، وبينها ما كان ذا تأثير على الأدب العربي برموزه أو شخصياته.

هنا خلاصة عن موسوعة يونانية تعود إلى أكثر من 1000 سنة.

“السُوْدا”

  اسمها “السُوْدا” (Suda)، وضعها، ترجيحًا، في مجلدٍ ضخمٍ عالِمٌ بيزنطيٌّ فكانت إِحدى أَوائل الموسوعات وأَقدم المعاجم في العالم.

في تفصيلها أَنها ذات ترتيب أَبجدي في فصول موسعة عن أَبرز أحداث عصرها، ما يجعلها مَعْلَمًا تاريخيًّا ولغويًّا وأَدبيًّا في تلك المرحلة من العصور الوسطى.

يُعزى وضعُها إلى عالِـمٍ يدعى “السُودا”، وضعَها باليونانية في نحو 30،000 مدخل وموضوع، وتضم بعض الرسوم الإِيضاحية التي ضاعت اليوم مصادرُها الأَصلية. وكلمة “سُوْدا” باليونانية القديمة تعني “القلعة” أَو “الـمعقَل”، وقد يكون الأُسقف أسطاطيوس التسالونيكي أخطأ المدلول فعزا مؤلف الموسوعة إِلى تلك الكلمة التي لا علاقة لها باسم المؤلِّف الحقيقي.

في هيكلية “السُوْدا” أَنها في نقطة وسطى بين القاموس اللغوي والموسوعة بمفهومها المعاصر. فهي تشرح المصدر، والتحوير الذي لحق الكلمات، ومعنى كل كلمة وفْقَ مدلولها الفقْهي لغةً عصرئذٍ، استنادا إِلى تفاسير واشتقاقات فاليروس هاربوكريشُن (لغويٌّ يوناني قديم عاش في الاسكندرية نحو القرن الثاني الميلادي) والأُسقف الشهيد هيلاديوس (القرن الميلادي الرابع).

هوميروس: مقاطع منه في “السُوْدا”

مرجع تاريخي

مهما يكن من موادها وما يبدو اليوم بدائيًا فيها، هي مرجع غني جدًا للتاريخ البيزنطي القديم والحياة عصرئذٍ، مع أَن النصوص فيها – كما يراها الخبراء اليوم – ليست متساويةً في الدقة والمعلومات، لأَن معظمها مجرَّدُ تجميع معلومات تاريخية متراصة من دون تدقيق علْمي بالمفهوم الأَكاديمي المعاصر. والأَكثر ارتباكًا كذلك: في مواضع عدة تتداخل المواضيع والنصوص مع مواضيع أخرى، أَو إِضافات لاحقة عن تاريخ وضع الموسوعة، منها مثلًا نص عن مايكل بْسيلُّوس (الراهب البيزنطي والعالِم والكاتب والفيلسوف والمؤرخ والمنَظِّر الموسيقي 1017-1096) يرى النقاد اليوم والخبراء أَنه موضوع بعد تاريخ صدور الموسوعة، أَي أَنه ربما أُضيف إِليها لاحقًا.

على أَي حال، هذا لا يمنع من أن تكون “السُوْدا” مجمَّعًا ممتازًا للأَعمال الأَدبية القديمة، بما تتضمَّنه من مقاطع بيوغرافية نادرة لأَعلام سياسيين وكهنوتيين وأَدبيين من الأَمبراطورية البيزنطية لغاية القرن العاشر، نادرًا ما وَرَد ذكْرهم أَو ذكْر مؤَلفاتهم في كتابات تلك الفترة. من هنا قيمة “السُوْدا” في ذكْرها إِياهم وتأْريخها نصوصَهم، حيال فقدان معظمها مع الأَيام وانقراض سائر المراجع.

سوفوكل أَبو المسرح اليوناني

معلومات نادرة

بين المعلومات النادرة التي تحفظها “السُوْدا”: نصوص عن “قسطنطين السابع بورفيروجينيتوس” (الأَمبراطور البيزنطي الرابع في السلالة المقدونية ) وهو عاش بين 912 و959، ومقاطع عن مراحل من ذاك التاريخ القديم وضعها يوحنا الأَنطاكي خلال القرن السابع عن التاريخ الروماني، وسيرة الراهب القسطنطيني جورج هامارتولوس وضعها في القرن التاسع جورجيوس موناخوس عن العصر البيزنطي الذهبي.

ومن المعلومات النادرة كذلك في “السُوْدا”: سِيَر مؤَرخ الفلاسفة القُدامى ديوجينوس لارتيوس، وكتابات العالِم اللغوي اليوناني أثيناوُس النُقراطيّ (نوقراطيا مدينة تجارية في مصر القديمة)، وفلافيوس فيلوستراتوس (ملقَّب بـ”الأثينيّ”، وهو عالِم فقهي في اللغة إِبان الأَمبراطورية الرومانية في بلاط فيليبوس الأَول أو فيليبوس “العربي”).

وفي “السُوْدا” كذلك نصوص معجمية وضعها الكاتب أوديموس الرودوسيّ وهو فيلسوف يوناني يُعَدُّ أَول مؤَرخ للعلوم، عاش بين 370 و300 (ق.م.) وكان أَحد أَبرز تلامذة أرسطو ومحرر نصوص معلِّمه كي تكون تعاليمه أَكثر سهولة للفهم والاستيعاب.

أما القسم المعجمي في الموسوعة فيتناول كُتَّاب اليونان الخالدين، وأَبرزُهم هوميروس وأرسطوفانوس وتوسيديدس وسوفوكليس وسواهم، وتورد “السُوْدا” مقاطع طويلة من كتاباتهم. وبذلك تكون هذه الموسوعة مرجعًا شبه أَوحدَ لنصوصهم التي ضاع معظمها ولم تَعُد منها لُمَح إِلَّا في “السُوْدا” التي باتت اليوم مرجع نادر للتاريخ الأدبي اليوناني.

من هو؟

يبقى السؤال الذي لم يحسُم المؤرخون بعدُ في جوابه: من وضع “السُوْدا”؟

كل ما وصلنا عنه أَنه عاش في النصف الآخر من القرن العاشر، بدليل ما ورد من ذكْر لوفاة الأَمبراطور الكبير يوحنا الأَول تْزيميسكوس (925-976) وخلَفه باسيليوس الثاني (976-1025) ثم قسطنطين الثامن.

وكان صدور الموسوعة قبل القرن الثاني عشر، بحسب الأسقف التسالونيكي أُسطاطيوس الذي عاش بين 1115 و1196.

الكاتب الإِنكليزي أَلكسندر بوب (1688-1744) يذكر “السُوْدا” في كتاباته. ولا عجب في ذلك فــ”السُوْدا” طُبِعَت مرارًا منذ نهاية القرن الرابع عشر في نسَخ ورقية مميزة، أَحدثُها طبعة الناشرة الدانماركية آدا أَدلر (1878-1946) في خمسة أَجزاء صدرت بين 1928 و1938 وأُعيد طبعها سنة 1971 بعد نفاد نسخها. وتأكيدًا لريادة هذه الموسوعة وأَهميتها التاريخية صدَرَت لها طبعة إِلكترونية سنة 2014 وباتت لدى متناول الجميع في العالم.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى