جورج الزاخم… مُؤسَّسَة في رَجُل!

 ريمون عطاالله*

فَقَدَ لبنان قامةً يَصعبُ تعويضها.
رَحَلَ جورج الزاخم رجل الاعمال والعطاء، رجل العلم والثقافة، ورجلُ مهمّاتٍ صعبة استهوته لتذليلها.
كلُّ مَن عَرَفَ جورج الزاخم سوف يفتقده، يفتقد سرده لما قام به على مرِّ سنواتٍ عديدة في حياته، تَنقّلَ خلالها بين الدول الأفريقية والآسيوية والغربية، حمله طموحٌ شخصي ونظرةٌ بعيدة تصبُّ في مصلحةِ صروحٍ جامعية ومستشفياتٍ ومنحٍ مدرسية. كان يؤمن بأنَّ ما له ، له وللجمعيات الخيرية التي تغطّي الكنائس الأرثوذكسية، والجامعات في لبنان والعالم حيث يكون المردود للبنان وللدول التي عمل فيها، فاعطته ليُعطيها لاحقًا ويُعطي أبناءها فُرَصَ علمٍ وعمل.
قِلّةٌ هُمُ المهندسون اللبنانيون الذين تجاوزت شهرتهم حدود وطنهم، و تركوا بصماتهم في عديدٍ من دول العالم لتشمل قطاعاتٍ أُخرى تشهد على طول باعٍ في التخطيط والتنفيذ والاستشراف الفنّي و التقني .
جورج الزاخم خرّيج “الاميركية ” التي عاشت معه حتى أواخر أيامه، والذي عمل مع إميل البستاني في باكستان وأنجزَ مشاريع مائية وبرمائية ونهرية وبحرية ربطت غرب البلاد بشرقها، و أسّسَ شركة “زاخم للإنشاءات” كرديفٍ لشركة “كات” اللبنانية و”باكتل” الأميركية، ثم حمل أفكاره إلى نيجيريا وكينيا وغانا فحوّلها إنجازاتٍ، حتى أنَّ أنابيب النفط التي مدّها في نيجيريا لا تزال إلى اليوم تحمل اسمه، و كان له ما يفعله في العراق وقطر وسلطنة عُمان قبل أن يستقرَّ في لندن، و يبني فيها سلسلة فنادق تديرها شركات الشيراتون و الهوليدي إن في هيثرو وعماراتٍ تجارية وسكنية في لندن .
‏ولم تَغِب بصماته الهندسية عن لبنان حيث لشركة “الزاخم” فروعٌ في مختلف المناطق. وإذا كان جورج تحدّى الصحارى عبر أنابيب نفط في دولٍ كثيرة، إلّا أنَّ مياهَ المتوسط في بيروت شدّت قلبَ المهندس ليشتري ويجدد فندق “الريفييرا” على كورنيش المنارة حيث جَمَعَ فخامةَ البناء بعذوبة الرمال والمياه والشمس للاستمتاع بالتمدّد فوقَ رمالٍ احبّها وتحت أشعّةِ شمسٍ كان يواجهها بقبّعاته الصيفية الأنيقة والطريفة.
بعد بيروت كانت لندن بيته ومتعته، له طاولته في أهمِّ مطاعمها فزَيَّنَ مكتباتها بكتابٍ يروي مذكرات جندي لم يَرمِ سلاحه ليستريح . تكفّلَ بإصداره صديقه نعيم عطالله صاحب دار نشر “كوارتت”. وإذا كان وباء كورونا دفعَ بنعيم إلى مغادرتنا، إلّا أنَّ ذلك الوباء جعل جورج يعتمد على الهاتف ليبقي علاقاته مع أصدقائه قوية وممتعة.
كان يخرج عندما ينتهي حجرٌ، فتكونُ إطلالته الأولى إلى الكنيسة الأرثوذكسية حيث ينتظره دائما صديق عمره الدكتور سمير حريكي، وليسير في الهايد بارك مع صديقه عبودي الأسطه، وليلتقي عددًا من أصدقاء العمر حولَ مائدة صديقة العائلة سفيرة لبنان السابقة في لندن إنعام عسيران. وإذا كانت هذه أنشطته النهارية خلال فترة الوباء التي امتدت لسنتين تقريبًا، كان نشاطنا الليلي جورج وأنا السهر مع ام كلثوم ابتداءً من الساعة التاسعة، حيث كان الهاتف بيننا ثلاثة أرباع المشاهدة، كنا نناقش أم كلثوم وقصائدها وفرقتها الموسيقية، ونمرُّ على ما يحدث في العالم بانتظار حلِّ العقد في لبنان. ما أن غادر جورج لندن عائدًا إلى بيروت، حتى توقّفتُ عن سماعِ أم كلثوم، لا أدري لماذا فقدتُ لذّة الاستماع إليها، هل يا ترى كان جورج الدافع الحقيقي لاستمتاعنا؟ وإذا غابَ النصفُ بطلت فعالية النصف الآخر؟
من الأمورِ التي كانت تجلبُ الفرحَ إلى نفسه، جمعُ الخيِّرين لجمعِ تبرّعاتٍ لأعمالٍ خيرية، وكانت كلّها تصبُّ في مصلحة الجامعات لمستقبل الأجيال والمستشفيات إن كانَ بناء أو تأمين تجهيزات طبية حديثة. وكان كلّما كبر عدد الخيِّرين والمستفيدين يشعر جورج أنه يحقّقُ ما يطمحُ إليه صحة جيدة للقيام بأبحاثٍ علمية، تُعمَّمُ افادتها على كثيرين.
كان عنده لبنان أوّلًا ولبنان أخيرًا، ولا شيءَ بينهما إلّا كل قضية تهمُّ العرب واللبنانيين.
في كلِّ بلدٍ عمل أو عاش، زرعَ وحصدَ وتعلّم، فتبلورت شخصيته وتوسّعت فتحوّلَ في أحاديثه الشيِّقة إلى موسوعة، يرغب المستمع بامتصاص المزيد والمزيد .
لم يُقصّر جورج في واجباته، فهو كان متمسّكًا بعادات الأهل والجدود، لم يقف بُعدُ المسافات عائقًا في وجه القيام بواجباته تجاه أصدقائه كما فعل عندما توفي صديقه المتروبوليت فيليبوس صليبا في كاليفورنيا فكان جورج أوّل الواصلين وآخر المودّعين. ما خلت ” قعدة” حميمة معه إلّا وكانت علاقته بالفيلسوف شارل مالك كالجالسة على الكرسي الثالث.
تأثّرَ جورج بالكثيرين وأثّر بالكثيرين. إهتماماته الزمنية والهندسية والفكرية لم تمنعه من صَرفِ الأوقات الطويلة إلى جانب رفيقة عمره ليزا التي ضحّت وتحمّلت، فجورج لكثرة ما جمع في رأسه من مواهب كان بالطبع رجلًا صعبًا، لكن وَجَدَ في ليزا المُهدِّىء والحنان والحب إلى جانب وَلَدَيهما سليم ومروان.
جورج مكانُكَ في قلوبِ كلِّ أصدقائك لن يملأه أحد. لتَكُن السماء مكانَكَ الجديد المُريح. جورج السماء تَعرِفُكَ.

  • ريمون عطالله هو ناشر ورئيس تحرير تقرير “الديبلوماسي”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى