ماغريت وجورجيت… قصة الحب الكبير

جورجيت وعلى كتفها يمامة

هنري زغيب*

التقيا ذات يوم من 1913 في معرض شارلُروَى السنوي. كانا في مطلع المراهقة: هو في الخامسة عشْرة، هي في الثانية عشْرة. اشتعلَت بينهما شُعلة حب رومنسية لم تَدُم سوى سنة واحدة حين فصلَت بينهما الحرب العالمية الأُولى. تباعدا سبْع سنوات، حتى الْتَقَيَا ثانيةً بالمصادفة سنة 1920 في حديقة بروكسيل العامة، فلم يتركا الفرصة هذه المرة تضيع منهما: عقدا خطوبتهما وتزوَّجا سنة 1922.

تلك هي الصورة العامة للسيرة العاشقة التي عاشها الرسام السوريالي البلجيكي رينِه ماغريت (1898-1967) والبلجيكية جورجيت بيرجيه (1901-1986).

إِحدى لوحات كثيرة لجورجيت بريشة رينه

بين السيرة والمسيرة

اشتُهر رسامًا سورياليًّا اختصره شعاره “الغليون والقبّعة السوداء”، لكنَّ وراء موهبته امرأَةً آمنَت به وكانت “موديله” وسهَّلَت له أَن يُطْلقَ ريشته المبدعة: إِنها حبيبتُه وزوجتُه جورجيت. وبين سيرته ومسيرته فارقُ أَن مسيرته الفنية ذاتُ غرابة سوريالية فَوْوَاقعية، بينما سيرته الشخصية ذات واقعية مُريحة، بفضل جورجيت التي أَنْسَتْهُ حادثةَ وفاة أُمه قبل بضع سنوات ومحاولته الانتحار بعدها من شدَّة قهره عليها. ولم يجد الاتزان إِلَّا منذ التقائه جورجيت.

لقاءٌ عابر ففراقٌ فلقاءٌ أَبديّ

و… أَسعفَهُما القدَر: فبعد انفصالهما الأَول (1914) عند غزْو الأَلمان النازيين وطنَهُمَا بلجيكا وانتقال عائلة جورجيت من مارسينيل (مقاطعة شارلُروى) إِلى بروكسيل، غادر رينه أَيضًا إِلى العاصمة البلجيكية يدرس الرسم في “الأَكاديميا الملكية للفنون الجميلة”، حتى تلاقيا من جديد بمصادفة سعيدة في حديقة بروكسيل العامة، ما أَفضَى إِلى زواجهما.

في مطلع الزواج، كان رينه يعمل مصممًا غرافيكيًّا لدى شركة لتصنيع ورق الجدران، وكانت جورجيت تعمل لدى محلِّ أَهلها لبيع أَدواتٍ ومعدَّاتٍ بينها أَنابيبُ التلوين الْكان يشتريها رينه. وكان راتب جورجيت هو المصدر الأَول لرزْق العروسين.

غرفتهما كما هي في المتحف

حادثة مؤْسفة

بعد فترةٍ غادر رينه إِلى باريس والتقى الشاعر أَندريه بروتون رائد التيار السوريالي الذي أَعجَب رينه فانضم إِليه، ما أَتاح له سنة 1929 أَن يعرض لوحاته مع أَعمال أَركان التيار سلفادور دالي وخوان ميرو وبابلو بيكاسو. سوى أَن العلاقة مع بروتون انكسرَت حين أَقدم هذا الأَخير على شتْم جورجيت لأَنها دخلت بجواهرها الثمينة إِلى عشاءٍ دعا إِليه بروتون. وكان طبيعيًّا أَن ينفعل رينه لتلك الإِساءة حيال زوجته، لكنه بقي في السهرة حتى نهايتها، وغادر الزوجان ليطلّق رينه التيار ويبتعد عنه ثماني سنوات انشقَّ خلالها التيار إِلى السوريالية البلجيكة والسوريالية الفرنسية.

علاقة غرامية عابرة

سنة 1937 دُعيَ رينه إِلى لندن لرسْم راعي التيار السوريالي وداعمه الشاعر إِدوارد جيمس (1907-1984). وإِبان إقامته في لندن كانت له علاقة غرامية قصيرة مع الفنانة الاستعراضية السوريالية الشابة شايلا ليجي (1911-1949). ومع أَن علاقتهما لم تدُم طويلًا، رادفها بأَن تكون جورجيت كذلك على علاقة مماثلة مع صديق لها في بلجيكا.

بعد عودة العلاقة بين الزوجين عادت جورجيت، كما قبْل الخلاف، ملهمة رينه وموديلَه الوحيد، كما يظهر جليًّا في معظم لوحاته ذات المواضيع النسائية، عدا رسمه مباشرةً وجهها أَو كامل جسمها، وكانت هي تدعمه وإِن لم تكُن – كما هي صرَّحَت – تفهم كثيرًا معظم ما يرسم في لوحاته.

يرسُم حيثما تكون جورجيت

ومما اشتُهر به ماغريت أَنه نادرًا ما كان يغادر بيته ليرسم. لذا كانت معظم مساحة البيت مشغولة بأَلوانه وريشاته وقماشاته حتى أَنه عند وقت الطعام كان يُزيح أَغراضه كي يفسح بعض المساحة لِــمدِّ الصُحُون. ولأَنه كان بهذا التعلُّق، أَبقَت جورجيت بعد وفاته (1967) على كلّ ما كان كما كان على حياته، بدءًا من ريشته ومَلْوَنِه كما تركهما لحظة وفاته.

سنة 1999 تَحوَّل البيت إِلى متحف، بجميع لوحات الفنان وأَغراضه كما تركها عند وفاته، حتى ليحسب زوار المتحف أَنهم يعرفون البيت لِمَا صدَر عنه من أَخبار وصوَر ووثائق. فالمأْثور عنه أَنه لم يكن يرسم إِلّا في الغرفة التي تكون فيها جورجيت، كي تكون أَمامه حتى ولو لم يكُن يرسمها.

الكلاب البوميرانية

أَبرز ما في البيت: جوُّ الحب الذي جمع رينه وجورجيت طوال عمْر من الصفاء، مرَّت خلاله غيومٌ عابرة، رمادية لكنْ عابرة، إِنما سرعان ما عاد الحب فمحا ما كان وأَبقى على الجوهر، بدليل أَن قصة الحب بينهما أَوْحت أَعمالًا فنية عدَّة لاحقًا، منها الأُغنية التي أَطلقها من قصتهما سنة 1993 كاتب الأَغاني والمغنِّي الأَميركي بول سايمون (م. 1941) وهي أُغنية “رينه وجورجيت ناغريت وكلبُهما بعد الحرب” (René and Georgette Magritte with their Dog After the War). فالزوجان بقيا بدون أَولاد،  إِنما اقتَنَيَا مجموعة من الكلاب البوميرانية الجميلة الصغيرة الحجم (من بوميرانيا : منطقة بين شمالي غربي بولندا، وشمالي شرقي أَلمانيا). كانا شديدَي التعلُّق بتلك المجموعة. وحين مات رينه (1967) بسرطان البنكرياس أَوصى زوجته بمجموعة الكلاب الصغيرة الجميلة فحافظت عليها عشرين سنة بعده حتى إِذا توفيَت (1986) دُفِنَت معه داخل الضريح ذاته في مقبرة مدينة شاربِك  قرب بروكسل.  هكذا عاشا معا ودُفنا معًا إِلى الأَبد.

معًا في الحياة معًا في الموت (ضريحهما المشترك)

حب لم يُذْبِلْه الزواج

وتبقى من سيرتهما قصةُ حب عاصفةٌ لم يُـخْمِدها الزواج التقليدي، فبقيَا عاشقَين وبقيَت ملامح حبهما الكبير في لوحاته، في بيتهما، وفي الفن الخالد الذي تركَتْه قصة ذلك الحب.

هذا لأَقول إِن الحب الكبير (وهو لا يأْتي إِلَّا مرة واحدة في العمر) لا يَذبُل في المساكنة، ولا في الزواج، ولا تقضي عليه روتينيةُ الحياة اليومية، حين يعرف الرجل كيف يُبْقيه شاعلًا، وحين تعرف المرأَة كيف تُغذَّي باستمرارٍ شرارات هذه الشُعلة.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى