إنَّهُم هنا ليَخذُلوكُم!
البروفسور بيار الخوري*
مُنذُ الانتخاباتِ النيابية الأخيرة تَمّت حركةٌ مُنَسَّقة بين القوى السياسية المُهَيمِنة في لبنان ووسائل الإعلام لتصويرِ”نوّابِ التغيير” كأنّهم مجموعةٌ مُنسجمة أو حزبٌ أو حركةٌ أو تيّار، لديهم مجموعة من المصالح المشتركة، أو يُمثّلونَ فئةً اجتماعيةً واحدة، بل كأنَّ لديهم برنامجًا سياسيًا مُتماسكًا واحدًا.
لم يَكُن هذا العملُ بريئًا ولا ثناءً على تشكّلِ فريقٍ ثالث (إقرأ عاشرًا) في لبنان يتميّزُ بصفته مُعبّرًا عن استمرارِ انتفاضة ١٧ تشرين الأول (أكتوبر) 2019، ولكن بأشكالٍ سياسية تُعبّرُ عمّا أفرزه الشارع.
ليسَ هذا الكلامُ خطأً على الجملة، لكن مقاصده هي اسوأ ما فيه. لقد تبنّت القوى السياسية المُضادة للممانعة خطابًا غير بريءٍ يُجمِعُ على الإشادة ب”نواب التغيير” بصفتهم امتدادًا طبيعيًا لمعاركها السياسية (وغير السياسية) المؤسَّسة منذ ما يقارب النصف قرن.
لا أدري إذا كان النوابُ “التغييريون” يقبلون هذه التسمية كتعريفٍ أم يقبلونها على مَضضٍ ولضروراتٍ سياسية. ولا أستطيعُ أن أحكُمَ إن كانَ التنسيقُ بينهم ككتلة بعد الانتخابات، وحضورهم معًا في البرنامجٍ التلفزيوني “صار الوقت” على قناة ال”أم تي في”، وإدارتهم لمبادرةٍ مُشتَرَكة لانتخابِ رئيسٍ للجمهورية، قد أفادت كل التغييريين أم أضرَّت بعضهم وأفادت بعضًا آخر. ولكني على ثقة أنَّ الجُزءَ الأكبر من أعضاء هذه المجموعة من النواب يجمعه شيءٌ ما، كونه لم يأتِ بالأصوات الصافية لطوائف هؤلاء النواب، كما إن هؤلاء يمثّلون تعبيرًاً عن رَفضِ مَن انتخبهم للاصطفافات التقليدية في خيارات الانتخاب. بغَيرِ ذلك يصعبُ التعامل معهم ككتلة.
يَصُحُّ إلى حدٍّ بعيد ربط هؤلاء النواب بانتفاضة السابع عشر من تشرين الأول (أكتوبر) 2019، كون معظمهم قد جاؤوا من صلب هذه الحركة. لكن هذه الحركة التشرينية لم تكن بذاتها كُلًّا مُنسَجِمًا، وهذه طبيعةُ الأمور في بلدٍ يثقل تاريخه بالانتفاض الطائفي.
حراك تشرين كان حدثًا عظيمًا في تاريخ لبنان، بصفته حراك شعبٍ تجاوزُ في لحظةٍ ما انقساماته المريضة، ولكن ذلك لم يَعنِ للحظةٍ إنسجامَ القوى التي انبثقت عن هذا الحراك.
النوابُ التغييريون كلّهم تغييريون ولكن: ما يريدون تغييره يتراوَحُ بين هدفِ نَزعِ هَيمَنَةِ محور المُمانعة كهدفٍ أسمى، وهدفٍ يلتزمُ شعارَ “كلّن يعني كلّن” إلى حدٍّ بعيدٍ كهدفٍ آخرٍ أسمى، وما بينهما نوابٌ يضمرون أكثر مما يُعلنون.
لقد واجهَ هؤلاء النواب وعلى اختلاف أهوائهم، حملةَ تَنَمُّرٍ واسعةٍ حولَ عجزهم عن التقدّم إلى الأمام وتحميلهم مسؤولية “تخييب آمال” القوى السياسية التقليدية، وكأنَّ هؤلاء النواب قد وُجِدوا كرافعةٍ جديدةٍ للتقليد الذي حاربهم في الواقع بكافةِ الأشكال المباشرة والمُلتوية.
لنعترف أنَّ القوى السياسية التقليدية قد نجحت أخيرًا في جذب معظم هؤلاء، وإدراجهم على قاعدة التقاطع ضمن مشروعِ الاصطفافِ الانقسامي المشكو منه أصلًا.
إنَّ القلّة التي اجتمعت على رفضِ مُرَشَّحَي الانقسام الداخلي (إقرأ أيضًا الخارجي) هي النتيجة العادلة المُمكنة، رُغمَ تواضعها، التي استطاعت روح تشرين أن تُنتجَها بصفتهاً امينة على شعار “كلّن يعني كلّن”.
سيحتاج الشعب اللبناني إلى دوراتِ حراك متعاقبة ومؤلمة ليستطيع تحويل هذه القلّة إلى كثرة، ولكنه نجح بالحدِّ الأدنى في إيصال اشخاصٍ أُمناء على الشعار التشريني مهما صغر حجمهم.
أنا هنا لأخذلكم! قالت نائبة التغيير مُخاطبةً احزاب السلطة. عسى خيرًا.
- البروفسور بيار الخوري هو أكاديمي لبناني، باحث وكاتب في الاقتصاد السياسي. يمكن التواصل معه عبر البريد الإلكتروني التالي: info@pierrekhoury.com