مسرح كركلَّا شاهدًا وسفيرًا (2 من 2)
هنري زغيب*
ذكرتُ في الجُزء الأَول من هذا المقال أَن عبدالحليم كركلَّا، بعد تسع سنوات (2014 – 2023) من الغياب عن مسرحه الدائم في بيروت (مُجَمَّع “إِيفوار”، منطقة سن الفيل، شماليّ العاصمة اللبنانية) عاد إِلى بيته الأَول، إِلى بيروته الغالية، إِلى لبنانه الأَغلى، بعمل مجدَّدٍ ونابض بالتاريخ كما بالعادات والتقاليد اللبنانية الأَصيلة ذاتِ القيَم والمبادئ والأَخلاق: “فينيقيا أَمس واليوم”.
سوى أَنه خلال تلك السنوات التسع جال على أَفخم مسارح العالم بأَعمال كوريغرافية موسيقية غنائية، منها “إِبحار في الزمن” و”كان يا ما كان”، و”جميل وبثينة”، وكانت لها أَصداء ساطعة في الجمهور والصحافة، عن “مسرح كركلَّا الحامل التراث اللبناني خصوصًا والعربي عمومًا”، في لوحات جميلة مبدعة تتنافسُ فيها على الجمال عناصرُ الرقص والغناء والتمثيل والملابس والديكور، ما يُضفي عليها إِيقاعًا بصريًا ساحرًا يرافق الخيط الروائي والتمثيلي.
ويتميَّز مسرح كركلَّا بخاصية لافتة: المسرحيةُ لديه تنبض طيلة الوقت بإِيقاعَين: موسيقى عبدالحليم كركلَّا (إِعدادًا، وإِشراف محمد رضا عليغولي) فلا تتوقَّف ميلودياها أَنغامًا متلاحقةً طوال العرض راسمةً بالنوطة أَجواء الأَحداث في المسرحية، والإِيقاع الآخر كوريغرافيا أَليسار كركلَّا التي تَبهر المشاهدين بخطوات دقيقة الوقْع تنسُجُها في خطوة دينامية تتبدَّل كل 10 ثوانٍ (نحو 6 خطوات في الدقيقة الواحدة) ما يرفع دينامية المشهدية إِلى مئات الخطوات على مدى المسرحية.
عودة ربيعية
مع ربيع لبنان 2023 وما فيه من مواعيدَ ثقافيةٍ زاهرة، وبعد انقطاع قسْري عن الجمهور اللبناني، عاد مسرح كركلَّا إِلى إِضاءة أَنواره مع مسرحية “فينيقيا الأَمس واليوم” (مسرح كركلا- سنتر إِيفوار – سن الفيل، حرش تابت)، مستعيدًا مجد الفن الراقي الذي دائمًا هو الضوء الذي يسطع في الأَيام الصعبة والمظلمة، فيُدخِل ومضةً من الفرح إِلى قلوب جمهوره.
في هذا العمل الجديد يأْخذنا كركلَّا إِلى الماضي ثم يُعيدنا إِلى الحاضر، في قسمَين من مسرحيته “فينيقيا الأَمس واليوم”.
من الماضي…
نطلُّ على العالم القديم، إِبَّان أَشرقَتْ حضارةٌ مَدَّت شعاعاتها وِسْع المتوسط. إِنها فينيقيا. فمن شواطي بيبلوس وصور إِلى أَسوار قرطاجة، حكَمَ الفينيقيون البحارَ وانطلقوا إِلى مغامراتهم البحرية الميمونة. وكانت جوهرةَ جواهِرِهِم: شجرةُ الأرز، ذهَبُهم الأَغلى، طمحَ إِليه الملوكُ عبْر سلالاتِهم لبناءِ المعابدِ والهياكل. على أَنَّ أَغلى مساهمات الفينيقيين كانت الأَبجدية، تَداولَتْها بفضلِهم المستعمراتُ والحضاراتُ المتعاقبة. ومن يومها لم تَعُدِ المعرفةُ قَصرًا على النُخبة بل انتشرَت في الناس، وتعمَّمَت على البشرية طريقًا معرفيًّا ما زال ممتدًّا حتى اليوم.
في معبد بَعلَة جِبِل، حارسةِ مدينة بيبلوس التاريخية، كان الملك أَحيرام يبحثُ عن توطيدِ مملكته أَكثر. وامتدَّ طموحُه حتى سلالةِ الفراعنة في مصر، ليعقد حلْفًا مع ابن رعمسيس الثاني. وكان رعمسيس في قمة مجده الممتدِّ وسْع أَراضي النيل الشاسعة، يستعدُّ لإِرسال ابنِه عند أَحيرام، طامحًا بتوسيع حُكْمِه عبْر تزويج ابنِه آمون حور خبشفت من ابنة أَحيرام: الصبية الجميلة سيدروس (تَيَمُّنًا باسم الأَرز). وهكذا كان. غير أَن سيدروس انصاعت ظاهرًا لقَدَرِ أَن ترحلَ بعيدًا إِلى أَرضِ الفراعنة مقايَضَةً بين والدِها وفرعون مصر من أَجل توسيع المُلْك في جمع وادي النيل ببلاد الأَرز. فهي خضعت لمشيئة والدها لكنَّ الحزن بقي يغمُر روحها لأَن قلبها معلَّقٌ بحب شاب آخر، ما دفعها إِلى الفرار من العريس الفرعوني ومن أُبَّهة الـمُلْك، متحيِّنةً أَولَ فرصةٍ تحت جَنْحِ الليل كي تتسلَّل سِرًّا وتهرُبَ إِلى حُبِّها الحقيقي، وترتمي بين ذراعَي حبيبِها قائدِ الحرَسَ الملكيّ.
… إلى الحاضر
هي القصة ذاتها (تزويج قسريّ وهرَب العروس قبَيْل العرس) نقلها إِلينا مسرح كركلَّا، في أَجواء ضيعة لبنانية يتوافد أَهاليها إِلى ساحتها التي هي مرآة حياتها اليومية ومجمل أَحداثها. ومن هذه الأَحداث انقسامُ الضيعة بين حيّ “رأْس الجرد” وفيه مزرعة هندومة وابنتِها العاشقة ليلى، وحي “التل العالي” وفيه مزرعة المركيز أَبو فضلو وابنه فضلو. وإِذ يظهر في الساحة الشاب مزيان تُغَيّر قصةُ حبِّه لليلى مفاهيمَ سائدةً وتقاليدَ بائدةً لزواج الـمَصالح. صحيح أَن الخطوبة تمت بين ليلى وفضلو، ولكن… يومَ الزواج، فوجئ الجميع بأَنّ ليلى العاشقة أَخفَت حبَّها إِلى أَن نجحَت في الهرب من عريسها فضلو الفاحش الثراء، مفضِّلةً حبًّا متواضعًا مع حبيبها مزيان. صدَم الحدثُ الجميع، وفي طليعتهم أَبو فضلو والست هندومة، واهتزَّت أرَكان الضيعة. لكن أَهل الحكمة والوفاق اجتمعوا معًا، فنجحوا في إِطفاء الفتنة ونار الشر وإِعادة الهدوء إِلى الضيعة.
هكذا يَثْبُتُ أَن الحُب في كل مكان وزمان، له التاج والصولجان: حينًا يقطف للعشاق تفاحة الفرح، وحينًا يقطر لهم دمعة الحزن والفراق.
نجوم المسرحية
في هذا العمل المتجدِّد، يقدم مسرح كركلَّا باقةً رائعةً من حقول لبنان الفن العالي، فيها كوريغرافيا كاملةُ النسْج بتوقيع أَليسار كركلَّا طرَّزْتها بأَجساد الراقصات والراقصين تناغُمًا كأَنْ في جسد واحد، كأَنْ في إِيقاعٍ واحد، كأَنْ في خطوةٍ واحدة ،كأَنْ في لوحةٍ واحدةٍ زَوغى بأَحايين الجمال، وبغناء طيِّب النكهة من هُدى حداد صوتًا بنفسجيًّا وتمثيلًا راقيًا وحضورًا يُنتَظر، وجوزف عازار المتمكِّن تاريخًا فنيًّا مُشَرِّفًا، وسيمون عبَيد الـمُشْرقِ الصوتِ والأَداء، وبتمثيل من منير معاصري الغنيّ المقدِرة وغبريال يمين الواثقِ الخبرة، وبلوحة بعلبكية متمايزة منفردة مع عُمَر كركلَّا، وفريق تمثيل ساطع المواهب الشابة: هشام مغريشي، محمد حجيج، فرنسوا رحمة، ليا بوشعيا، جورج خوَند، أَديب أَبي حيدر، إِلى ملابسَ كَرَكَلَّاوِيةِ الإِبهار جمالًا وتنسيقًا، وموسيقى من مركز كركلَّا للأبحاث التراثية وإِخراج طليعيّ كما دائمًا يَسِمُهُ الخلَّاق إِيفان كركلَّا، وكل ذلك بسيناريو وحوار وإِشراف عام من المايسترو المؤَسس عبدالحليم كركلّا .
بكل هذا الغنى يعود عبدالحليم كركلَّا إِلى بيته، إِلى بيروته، إِلى لبنانه، وهو متوَّجٌ بالنجاحات العالمية التي ينزَعُها عن صدره ليعلِّقها أَوسمةً على صدر لبنان الفن والثقافة والإِبداع، لبنان الحقيقي الذي يعلو على الآنيَّات اليومية العابرة فيه، ليبقى فوق، عند أَرزات الوطن الذي يكتبُه مبدعوه دائمًا وطنًا يضيْءُ جبينَ منارةِ الأَوطان الخالدة.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.