عَصافيرُ “سبايدر” المُلَوَّنة
عبد الرازق أحمد الشاعر*
كانَ أبي يَمُدُّ إصبَعَهُ في الفراغ كلّما أرادَ أن يَمزَحَ معي، ويقولُ في نبرةٍ حاسمة: “بُصّ العصفورة!”. وكُنتُ في كلِّ مرة أدَّعي أنني أُصَدِّقه، فأُولي وجهي شطرَ عصفوره الوهمي، لا لأنني أُصدِّقُ زعمَهُ، بل لأنني أعلَمُ أن أصابعَ يده الأخرى تستعدُّ كي تجوبَ في أنحاء جسدي لأُطلِق ضحكاتي الصغيرة فأغسل بها وجه أبي الذي تجعّدَ كثيرًا بسبب كثرة الشقاء ورقّة الحال. لكن حيلة أبي البسيطة علّمتني ألّا أثق بعصافير الآخرين، وأن أنظر جيدًا في أعينهم لا إلى أطراف أصابعهم حين يصيحون فجأة: “بُصّ العصفورة!”.
في الآونة الأخيرة، ازدادت عدد الأصابع المفرودة والعصافير الوهمية التي يمكن تصنيفها ضمن فئة الأكاذيب الصغيرة التي لن يفيدني تصديقها ولن يضيرها تكذيبي، ولهذا التزمتُ الصمتَ وآثرتُ الضحك المكتوم في أطراف أكمامي. لكن الصمتَ على عصفورة أحمد سبايدر أمرٌ لا يمكن تبريره لا سيما في ظلِّ تجاهلٍ إعلاميٍّ مُخزٍ يكادُ يرقى إلى توصيف التواطؤ، ولولا أنني قد وجدتُ الكثير من البسطاء يلتفّون حول هذا الشاب ويفتتنون به، لتركتُ عصفوره الوهمي يُحلِّقُ في أرجاء غُرَفِنا الإعلامية المُستباحة وفضائنا الأثيري المُخجل.
سبايدر الذي يُحبُّ دائمًا أن يُثيرَ حوله الجدل، ويبحثُ عن الشهرة على كل الموائد الإعلامية، بدأ إطلاق عصافيره الملوَّنة عقبَ اندلاع ثورة كانون الثاني (يناير)، والتي وجدها فرصةً مناسبة للوصول إلى الشهرة، فهاجم وائل غنيّم أحد رموز الثورة المصرية مُتَّهِما إياه بالعمالة لكونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية التي تسعى حسب زعمه لنشر الفوضى الخلّاقة في مصر. ثم قام سبايدر بتوزيع اتهاماته على الناشطين ذات اليمين وذات الشمال، فاتّهمَ إسراء عبد الفتاح وبثينة كامل وأسماء محفوظ ومايكل نبيل وغيرهم بالعمالة لجهاتٍ أجنبية تُغدِقُ عليهم الأموال لتخريب البلاد وإفساد العباد. ولم يَسلَم المجلس العسكري ولا الرئيس الراحل من اتهامات الشاب الذي اعتبره البعض نموذجًا مُشرّفا لشباب الثورة، وساروا خلفه كلما سلك دربًا وأمنوا خلفه كلما نعق. واختتم سبايدر سلسلة أكاذيبه الملوّنة بحملةٍ مُمَنهجة ضد باسم يوسف الذي لقبه بالأراجوز وبرنامج أبلة فاهيتا الذي اتهمه بتضمين شيفرات تُحرّضُ على العنف، ليطير بعدها بكل عصافيره الملوّنة إلى سوريا ويُعلِنُ دعمه المطلق لبشار الأسد.
لم يُشبِع التسويقُ المحلّي نَهمَ الشاب المُتطلّع إلى الشهرة، ولهذا عاد إلينا من الشام بعباءةٍ فضفاضة للغاية، وأكذوبةٍ لا يُمكنُ السكوت عنها هذه المرة. فقد جاءت أكذوبة الرجل هذه المرة أكبر من حجمه الضئيل وقدراته المتواضعة. جاء سبايدر من الشام بنَبَإٍ عظيم، فقد تمَّ تحويله بقدرة قادر هناك من مُغَنٍ هاوٍ إلى قائدٍ لسفينةِ النجاة التي سيركبها المهدي المُنتَظَر وأتباعه حين تتقاطر الفتن على الرؤوس وتدلهم بالناس الخطوب، حيث اصطفاه الله من دون خلقه جميعًا (هكذا يدَّعي) ليُمهّد لخلافة المهدي الذي سيملأ الأرض عدلًا بعد أن ملأها السلاطين ظلمًا وجورًا.
كان من الممكن أن نُطأطئَ رؤوسنا هذه المرة أيضًا، وندَّعي أننا نصدّق الرجل ونكتم ضحكاتنا في أكمام ثيابنا، ونتظاهر بأننا ننظر إلى أصابعه المفرودة عن آخرها في اتجاه عصفوره المزعوم لولا أن جرأته قد فاقت قدرتنا على الصمت هذه المرة.
حاول سبايدر، الذي لم يتورّع عن التلويح بإصبع التهديد في وجه مخالفيه “هنعلقهم”، أن يُنَصِبَ نفسه زعيمًا روحيًا على فئة “المدروشين” الذين ينتظرون أي مخلّص وإن كان في حجم “سبايدر”. وبالفعل، استطاع فتى الشرق (كما يُحبُّ أن يُسمّي نفسه) أن يستميلَ بعضًا من أصحاب السبح الطويلة والعصي المعقوفة، ووجد لنفسه مكانًا فوق منابرهم المُستباحة إلى جوار الأضرحة ليبدأ تبشيره بالخراب الذي سيَسبق بالضرورة قدوم المهدي المُنتَظَر.
الغريب أن سبايدر الذي زعم أنه سينجو ببركة آل البيت هو ومن آمن معه، لم ينسَ أن يستميلَ اليهود والنصارى ببعض الوعود، فهو لن يحملَ في سفينته المسلمين فقط، لكنه سيحمل معه كافة المخلصين من بني إسرائيل والنصارى (رُغمَ أنهم لم يؤمنوا بالبيت). فالمهدي الذي سيجيء مُخلِّصًا، لن ينتمي إلى رسالة دون غيرها، ولن ينحاز لدينٍ دون سواه. فلليهود مهديهم وللنصارى منتظرهم، ولن يكتمل إيمان المسلم حتى يؤمن بمهديه المنتظر.
ولم يجد الرجل غضاضة في محاولة تمرير مصطلح “النورانية” الذي هو تصنيف ماسوني علماني يرمز إلى “حملة النور” أو “عبدة الشيطان” تلك المؤسسة التي أنشأها الألماني “آدم وايزهوايت” في العام 1776، وأن يحاول الخلط بين مُعتنقيه وأهل الحق من المؤمنين الذين يسعى نورهم بين أيديهم وبإيمانهم، باعتبار أن الله نور، وأن المعركة المقبلة ستكون بين قوى النور وقوى الظلام. ولأن الكثير من شبابنا لا يعلمون أن محفل “الشرق الأكبر” والذي أسسه وايزهوايت يسعى إلى إقامة حكومة عالمية موحدة من طريق استقطاب الشخصيات ذات النفوذ في كل حكومات العالم من خلال الرشوة أو الجنس من أجل السيطرة على العالم، فقد وجب التنويه إلى ذلك.
عصفور أحمد سبايدر الذي فاجأنا به اليوم ليس بريئًا أبدًا، ولا يمكن أن نتركه يطير في أجواء غرفتنا ونحن نضحك ببلاهة الأطفال كما تعوّدنا، فالأمر ليس مجرّد عرضٍ ساحرٍ أقسمَ أن يُخرِجَ من قبّعته الطويلة حمامةً تطير. انتبهوا أيها الواقفون على حافة الزمان الأخير، ولا تتركوا سوس الخشب يأكل مناسئكم، لأن الكثير من الشياطين ينتظرون سقطتكم الأخيرة.
- عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: Shaer1970@gmail.com