في هذا البيت وُلِدَ “نبيُّ” جبران (2 من 2)

ماري وابنتها “أَمَل”: بالصورة الفوتوغرافية وبرسم جبران

هنري زغيب*

في الجزء الأَول من هذا المقال سردتُ إِطارًا عامًّا للبيت الذي دُعي إِليه جبران ذات يوم من ربيع 1918، وأَمضى فيه أَربعة وعشرين يومًا في الاستجمام والراحة والكتابة. وهناك وضع الـمُسوَّدات الأُولى لنصوصٍ أُولى ستكون لاحقًا فصولَ رائعته الخالدة “النبي”.

كيف تـمَّ ذلك؟ وما كانت ظروف تلك الولادة؟

هذا ما أَبسطُهُ في هذا الجزء الثاني والأَخير.

العودة من العمل الوطني

إِبان سنوات الحرب العالمية الأُولى انشَغَل جبران كثيرًا (خصوصًا بين 1916 و1918) وبشكل مباشر وشبه دائم في العمل مع منظَّمات أَميركية سورية ولبنانية (كان اللبنانيون في أَميركا فترتئذ يُسَمَّون “سوريين” في الإِطار الجغرافي السائد). وكانت  تلك المنظمات تجْهد لمساعدة اللبنانيين والسوريين، أَبرزُها “لجنة مساعدة سوريا وجبل لبنان” و”لجنة تحرير سوريا وجبل لبنان” و”لجنة المتطوعين من أَجل سوريا وجبل لبنان”.

ومع انتهاء الحرب كان لا بد لجبران من فسحة راحةٍ بعيدًا عن نيويورك وضجيجها وزواره ليستعيد نَفَسَه كتابةً ورسمًا. لذا جاءت في وقتها دعوته إِلى تلك المزرعة لتنتشلَه من وُحُول العمل السياسي وتعيدَه إِلى جَوِّه الأَدبي.

هذا الجو لاقاه في تلك المزرعة، فانسحر به وكتب إِلى ماري هاسكل في 14 نيسان/أَبريل 1918: “إِنه يا ماري مكان رائع. والسيدة غارلِند مُضيفة ممتازة وإنسانة راقية. ودِدْتُ لو كان لي أن أُقيم هنا ولا أُغادر. فإِني هنا حرٌّ بأَن أَكون ما أَريد أَن أَكون كما أُريد أَن أَكون، وأَشعُر أَن في قدرتي وضْعَ نتاجٍ جيِّد”.

بعد ثلاثة أَيام (17 نيسان/أَبريل) أَجابته بكل حماستها حيال كل ما يرضيه ويريحه: “تفكيري أَنك في مزرعة السيدة غارلِند يُريحني كل يوم ويُطَمْئِنُني. أَنا سعيدة جدًّا أَن تكون لكَ هذه الفسحة كي تَرسم وتكتب”.

“أَمَل” أَيام صباها في المزرعة (1918) وأَيام شيخوختها (1990)

2 كيلو حلوى و200 سيكارة

في ذاك الأُسبوع ذاته كتب إِلى شقيقته مريانا: “لكِ سلامٌ يا مريانا من هذه الأَشجار حولي وهذه الأَزهار… أَنا هنا يا أُختي ضيفٌ ملَكيّ في بيت ملَكي في ناحية ملَكية. يمكنني أَن أَكتب وأَن أَمتطي الحصان وأَن أَقود مركبةً ساعة أُريد… أَرسلي لي 2 كيلو من الحلوى و200 سيكارة”.

وفعلًا، بعد عودته إِلى بوسطن، حين التقته ماري لاحقًا في 6 أَيار/مايو 1918 دوَّنَتْ في مفكرة يومياتها أَنها رأَتْهُ “مُشْرق الطَلعة، واضح العافية، قويّ النبرة، واضح السُمرة، مُشِعّ العينين، هادئًا غير قَلِقٍ، غير عصبيّ، غير متوتِّر”. يومها حدَّثها أَولًا عن أَيام إِقامته في المزرعة، وعن شعوره بالحرية الكاملة في التنقُّل على وساعة الشاطئ وأَمام البحيرة الهادئة قرب الشاطئ، ومراقبة الأَفراس الويلزية (صغار الأَفراس من منطقة ويلز)، وقطعان الأَغنام، وبعض الحيوانات البرية في الغابة المجاورة، وروى لها الجو الممتلئ حياةً من ستة أَولاد السيدة غارلِند ومن ثمانية أَولاد آخرين تبنَّتْهم.

صفحة من مخطوطة “الزواج” (في “النبي”)

مزايا سيِّدة المزرعة

ومما نقَلَت عنه ودوّنتْه أَيضًا في يوميتها تلك، قوله لها: “أَمضيت وقتًا رائعًا هناك. أَحسستُ بالرغبة في الكتابة، وتمكَّنتُ من تحقيق تلك الرغبة. فالمكان جميل جدًّا، والسيدة غارلِند إِنسانة مميزة، ممتلئة حيويةً ونشاطًا وتساوي بين ضيوفها النزلاء في مزرعتها. وهي تساعد في غسل الصحون حين يتطلب الغسْل ذلك، وتساعد في الطبخ حين يتطلب الطبخ ذلك، وهي تخيطُ عند الحاجة، ووسط هذا كله تجد وقتًا للتأْليف، وأَصدرت حتى اليوم كتابَين. أَولادها وَدُودُون، عاد ثلاثة بينهم من المدرسة إِلى المزرعة يُمضون العطلة المدرسية، ويعملون في المزرعة كما يعمل الآخرون. في الصيف الماضي كان في المزرعة أَولاد كثيرون غير أَولاد السيدة غارلِند يعملون لقاء أَجر ولو زهيد، ويتناولون الأَكل الصحي، ويُمضون ثماني ساعات في العمل حتى إِذا انتهوا انصرفوا إِلى تساليهم (…). وبين أَكثر ما أُقدِّره في السيدة غارلِند أَنها تترك نزلاءَها كامل الحرية، فتتعلَّم حتى من الأَولاد عوض أَن تعلِّمَهم. الجميع يحترمونها في المزرعة، وكل ما يمكن تحويله إِلى الآخرين تحوّله: كل حبة قمح أَو أَرز أَو بقية أَيِّ طعام آخر، فلا يبقى في الصحن على المائدة أَيُّ بقايا، ولا يضيع مالٌ سُدًى. كلُّ شيْءٍ يُستعمَل حتى غايته الأَخيرة. كان يحدث لي أَحيانًا أَن أَتناول الفطور مع السيدة غارلِند في الثامنة صباحًا، حين يكون الآخرون غادروا باكرًا في السابعة. تحضِّر القهوة وصحون الفطور فنفطر، وبعدها تنصرف هي إِلى الكتابة وأَنصرف أَنا إِلى الكتابة. وحين كنتُ أَصعد إِلى غرفتي، أَنسحب بهدوء من دون أَن أُكلِّم أَحدًا… من هنا أَنني لم أَكُن في أَحد البيوت الخشبية الصغيرة التي تحتشد في المزرعة مخصَّصةً للضيوف. ولأَن الطقس بارد جدًّا، سكنتُ في البيت الكبير حيث التدفئة، وتسنَّى لي أَن أَكتب فيه بكل هدوء ودفْءٍ وسكينة”.

“أَمل” ابنة مسز ماري

لم يكن لدى جبران وقت ليرسم، فخطَّط بالقلم الرصاص بعض الرسوم لِمُضيفته. وبين ستة أَولاد ماري كانت ابنتها (“أَمَل”) هوپ (Hope) هي الأَقرب إِليه فوضع لها رسمان: الأَول لصفحة وجهها والآخَر جانبي. كانت في الرابعة عشرة (1905-2001) ، وكانت موهوبة بالرسم وجبْل أَشكال بالطين خصوصًا للحيوانات. وفي غرفتها تمثال نسر ورأْس ثور.

تلك الفترة الخصيبة من سُكنى جبران الهنيئة الهادئة المثمرة في المزرعة، كان النحات خليل جبران (1922-2008) وزوجته جين سجَّلاها لاحقًا بكامل تفاصيلها في مقابلة أَجرياها مع “هوپ” في 24 تموز/يوليو 1973، وكانت أَصبحت “السيدة هوپ غارلِند إنغِرْسُول” وفي السادسة والستين، فتذكَّرَت من أَيام جبران في المزرعة أَنه صنع يومًا قالب حلوى مع الأَولاد وكان مرِحًا،  وأَمضى معهم وقتًا يحاورهم ويشاهد أَعمالهم الفنية. وقالت إِنها هي التي غيَرت اسم المكان من “مزرعة الخليج” إِلى “مزرعة المراعي”.

الطبعة الأُولى من “النبي” (1923)

قراءَة أُولى للفُصُول الأُولى

في تلك الجلسة ذاتها مع ماري هاسكل (6 أَيار/مايو) أَطلعها جبران للمرة الأُولى على كتاباته الأُولى لِما سمَّاها لها “الفكرة الكبيرة” التي فكَّر بها كثيرًا فيما كان يتجوَّل في غابة المزرعة ويتمشى على رمال الشاطئ. قال لها: “أَنجزْتُ ثُلْثَي النُصُوص الإِنكليزية التي كنتُ كتبتُ لكِ عنه. كانت تلك “الفكرة الكبيرة” تدور في بالي لأَكثر من 18 شهرًا ولم أَبدأْ بتدوينها. كنت أَشعر أَنني لم أَكن ناضجًا ولا جاهزًا بعدُ لكتابتها، فتركتُها لِفترة قد تجيْء. لكنني في الأَشهر الأَخيرة بدأَت تنضج في بالي فانصرفت إِليها. ستكون النصوص من 21 فصلًا، أَنجزتُ منها 16″. وأَوضح لها: “لم أَشأْ أَن أَكتبَها شعرًا بل أَردتُ التعبير عن أَفكار أُريدها بالإِيقاع الضروري وباختيار الكلمات الصحيحة المناسبة”.

قال لها ذلك وأَخذ يقرأُ لها المقدمة، ثم ما كتَب في فصول “الأَولاد” و”الصداقة” و”الملْبَس” و”المأْكل والمشرب” و”الكلام” و”الأَلم” و”الزواج” و”الموت” و”الشراء والبيع” و”التعليم” و”البيوت” و”معرفة الذات”. وأَردف بعدها: “هل لاحظْتِ أَنَّ هذه الأَفكار هي التي كنا تبادلْناها معًا خلال سنوات؟ حديثي بها معكِ أَشرَقَها في بالي أَوضح، ومن سيقرأْها سيجِدُ فيها ذاتَه العميقة”.

… وتقرَّرت تسميته “النبي”

في تلك الليلة ذاتها أَخذا يراجعان النصوص معًا/ ويُجْرِيان عليها “بعض التعديلات البسيطة”، فكانت تلك فاتحة جلساتٍ لإِنجاز ما سيكون رائعة جبران الخالدة.

وفي تلك الليلة قرَّرا أَن يجعلا اسم الكتاب “الـمُرشدون”. وما إِلَّا لاحقًا: في حزيران/يونيو 1919 حتى اتَّخذَ الكتاب عنوانَه النهائي “النبي”.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى