احرثوا في البَرِّ والبَحرِ

رشيد درباس*

هل يَصلُحُ النفطُ ما أفسده العطّار؟
قولٌ مأثور حديثٌ جدًّا

يكره الأدبُ الحديثُ النعوتَ إلّا ما كان منها غريبًا مُوَلِّدًا للدهشة؛ ذلك أن وظيفةَ الصفاتِ تحديدُ الموصوف، فيما تسعى الحداثةُ إلى القولِ المطلق. في السياسة يختلف الأمرُ عن الأدب، كأن يوصفُ مثلًا حدثُ الترسيم بالتاريخي، وهو كما تعلمون وصفٌ عاديٌّ مقولٌ كثيرًا لا غرابةَ فيه ولا دهشة؛ وأنا بالحقيقة أوافق عليه مطلقيه، مع اختلافٍ بسيطٍ معهم حول المعنى المقصود، لأني أرى الأحداث كلَّها تاريخيةً ما دامت وقعت في زمان مُحَدّد وحيّزٍ معلوم، وهذا هو المعنى الجديرُ بحدث الترسيم، كما بسواه. أما أن يُطْلَقَ النعت على فعلٍ مُعَيَّنٍ للقولِ إنَّ التاريخ لن يهمله ولن ينسى ذكره، فهذا عندي لا يصحُّ إلّا إذا كان المنعوت قد أحدث فارقًا في الحاضر وخرقًا في المستقبل، وطَيًّا لصفحةٍ ماضية؛ فهل كان ذلك كذلك؟

لا أغمط حق من تباهي بالترسيم وعَظَّم دوره فيه ونسب الفضل الأكبر لنفسه، لأن العملية استغرقت جهدًا ووقتًا طويلين ومفاوضات غير مباشرة وتعثّرًا في التفاصيل؛ كما حامت فوقها مُسَيَّرات عزلاء من القنابل، حَثَّتْ على سرعة الإنجاز، تحت طائلة عودتها إلى التحويم مُذَخَّرةً بما يلزم من عدة في حال تعنت العدو؛ وأضيف أيضًا أن كل من ادَّعى وصلاً بـ”عاموس” الذي أصبح موازيًا لاتفاقات “أبراهام”، كان له نصيبٌ في الإنجاز الذي مهره الرئيس السابق العماد ميشال عون بتوقيعه. وربما كان الفضل الأكبر للفارس الخجول الذي  توارى خلف كل المظاهر، وراح يُمارِسُ دوره بسرية وأناة إلى أن أسفرت جهوده عما أسفرت. ولقد كان ذلك الدور مُعرَّضًا للطمس في خضم المهرجان الاحتفالي، لولا بيان الرئيس إلى الأمة  الذي أنصفه وأعلن أنه كَشَّافَةُ الغاز والنفط، منذ توليه وزارة الطاقة لأول مرة، وأنه مؤهَّلٌ من جديد للرئاسة وإسقاط العقوبات عنه.

وأنا أيضًا لا أُناقش ما كان لردع المقاومة من تأثير، ولأداءِ المفاوض الخبير من حنكة، لا سيما الطاقم التقني المحترم. لكنني أسمح لنفسي بأن أتناول الموضوع من زاويةٍ واقعية جدًّا إلى درجةِ أنها قد تُعَكِّرُ نشوَة النصر وفرحةَ إرغام العدو على الإذعانِ لمطالبنا وحقوقنا كاملة، وأن أؤكد على تاريخية الحدث، بالمعنى الزمني للكلمة الذي مفادُه أن مساعي الترسيم تراخت مدتُها حوالي عشر سنوات، على الرغم من أن العوامل اللبنانية المحلّية كانت متوافرة لمدة ست سنوات خلت على الأقل، من دون أيِّ فعالية، لعلّةِ أن مسرح العملية لم يكن جاهزًا لإطلاق العرض، الذي عندما نضِجَ أوانُه تم أخيرًا بنجاح منقطع النظير، كما لو “جاءَ ملْءُ الزمان” بالمعنى اللاهوتيّ المسيحي. وعلى ما تقدّم فإنني أظن أن الجانبَ اللبناني لم يشعر سابقًا بإلحاحِ اللجوء إلى الودائع البحرية، بل اكتفى بالإنفاق من الودائع المصرفية، حتى جَفَّت تمامًا، فاندفعت الطبقة السياسية المتنابذةُ بالمواقف المتنابزةُ بالألقاب، إلى اللقاءِ موضوعيًّا على ضرورة الغوص إلى أعماق البحار تنقيبًا عن حقلٍ غنيٍّ وبئرٍ سَخِيّة، وأملًا بالاستثمار في المياه المالحة بعد أن عكَّرَتِ المياه العذبة بأشباه السدود.

وتصديقًا لمعنى الوصف الذي أراه، نتذكرُ أنَّ تواريخ مهمة سُجِّلَت على مسار مسلسل عملية الترسيم لحدود المنطقة الاقتصادية الخاصة بلبنان، تبدأ بتوقيع مسودة الاتفاق مع قبرص في 17-1-2007، وتمرُّ بموافقة مجلس الوزراء في 13-5-2009 على تقرير اللجنة المشتركة التي كُلِفت بهذه المهمة، وتصل إلى القانون الصادر تحت الرقم 163 المتعلق بتحديد حدود لبنان. لكن تلك القرارات كلَّها لم تُوضَع موضع التنفيذ، لأن الظروف لم تكن ناضجة في ظلّ الاحتدام السياسي والصراع الرامي إلى إحكام السيطرة على مفاصل الدولة، والتطورات الإقليمية التي عمّمت حروبًا مُفجعة لم ينجُ منها أيٌّ من بلدان الجوار، فيما كانت إسرائيل التي تنعم بهدوء حدودها، مُنصرفة إلى الدراسة والبحث عن الموارد الدفينة.

تَغَيُّر المشهد الآن عائدٌ إذًا إلى عوامل تتخطّى السياسة اللبنانية وتجاذباتها، لأن الرعاية الأميركية المُثابِرة، ومصلحة العدو الإسرائيلي بتسهيل المهمة، بالإضافة إلى الحرب في أوكرانيا، أمور يَسَّرَت كثيرًا ما كان من قبلُ معضلًا، بل ما كاد يذهب بنا إلى حربٍ إقليمية على ما أكده السيد حسن نصرالله في خطابه يوم 29 تشرين الأول/ أكتوبر المنصرم، مُشيدًا فيه بالترسيم الذي صان الحقوق اللبنانية كاملة، وأدّى إلى فكِّ الاستنفار. وفي مقابلة بين هذه الإشادة وإشادة رئيس وزراء العدو بالاتفاق، نستنتج أن ما تمَّ التوصّل إليه أمر في غاية الجدية، لأنه حصل في التوقيت المناسب، حائزًا على موافقات أميركية وأممية وإقليمية، فاستدرج الشركات العملاقة للتنقيب، وهي التي ما كانت لتوافق على الاستثمار بمليارات الدولارات لو لم تكن المنطقة مُقبِلة على استقرارٍ مكفول.

من هذه الزاوية، أقول إنه حقًّا اتفاقٌ تاريخي لأنه واقعي، بغض النظر عن الأدوار اللبنانية في إنجازه، وبعيدًا من تعظيمِ النفسِ فيه حتى الأسطرة. وهو يتيح فرصة اقتصادية جديدة للبنان إذا اعتُمِدَ كمؤشر أمام اللبنانيين لكي يُخَلُّوا وراءهم ذلك التشنج المتلف للفرص، وتلك الحملات التي لا تنتج إلّا الهتافات الفارغة والتصفيق المهزوم.

وبالصفة نفسِها ومعناها عينِه كان خروج فخامة الرئيس من القصر في الثلاثين من تشرين الأول/ أكتوبر تاريخيًّا. فكما دخل إليه قبل ست سنوات بمواكبة شعبية عونية مرموقة، غادره بمواكبة مُماثلة تليقُ برئيس حزب، وتُقَصِّر عن مهابة رئيس دولة. وعلى الرغم من هذا، فإن الرأي السائد أن خطابه كان واجب التلافي، ورسالته إلى مجلس النواب وردت في الهزيع الأخير، فبات استيعاب الخطاب والرسالة معًاً عاجل الضرورة، إذ لا وقت أمام الدولة اللبنانية لِسِتِّ سنوات جديدة من الصراع مع “طاحونة المنظومة”، أو لخوض “حرب كونية أخرى”، ذلك أن دولتنا المهيضة لم تعد صالحة لهذا الكم من الحروب التي بدأت بحرب التحرير بل بالحروب الكثيرة التي قبلها، ولم تنتهِ بحروب إسرائيل المستمرة علينا.

أما المعنى الآخر “الأسطوريُّ” لصفة “التاريخي” فينطبق على ما لم يسبق لنا أن شهدناه، من امتلاءِ الشاشات بهذا الزبد الكلامي؛  فكلهم يرغي بلا دسم، وكلُّهم يفيض من السَّم الذي ينسرب إلينا من خلال العيون والآذان. لقد آن لنا أن ندرك أن الدولة ليست منبرًا للخطابة، بل مصالح ملموسة تخصّ الناس تتولى إدارتها السياسة الحصيفة التي إذا تنكر لها المسؤول حقت عليه المساءلة الوطنية والجزائية.

إن الواقعية البعيدةَ من أوصافِ التعظيم الذي يلجأ إليه كثيرون، تُلزِمني بالاعتراف أن ملء الشغور الرئاسي، مرتهن بجزئه الأكبر إلى مصالح خارجية، وتدفعني إلى التذكير بأنَّ لبنان عرفَ رئيسين سابقين للجمهورية اغتيلا قبل أن يتمكّنا من الإقلاع، أما الذي يجري الآن فاغتيالٌ مُمَنهَج للأسماء الصالحة والمُرشَّحة، كأننا بذلك نتخلّى للخارج عن آخر أسهمٍ لبنانية في الشراكة الرئاسية، لكي يأتي بعد ذلك القرار جاهزًا لإنزاله في الصناديق مصحوبًا بأمرٍ باتٍ صارمٍ يمنع خدش النصاب المطلوب.

كلّنا نعلم أن فريقًا لن ينجح في فرض مرشّحه، ولهذا خاض كل غماره على طريقته ما بين الأسماء الهلامية والأوراق البيضاء، واسم يتمتع بالجدية ولا يحرز مقبولية الطرف الآخر. لكن وقتًا لا أظنه سيتأخر، لا بدَّ أن يؤذن بحلٍّ ما وشخص ما، تكون أمامه الفرص مفتوحة للانطلاق بالتعافي، يؤازره في ذلك توقُ اللبنانيين للخروج من سياسة الفراغ ووَهن القوى التي أدمنت ممارسة الفراغ والتفريغ.

يمكنُ كلَّ أحدٍ أن يكونَ تاريخًا. أما التاريخيُّ فيلزمُه انحناءٌ على الحاضر، واختفاءُ ذاتٍ، وضمورُ ادّعاء. هكذا يمتلئُ به المستقبل.

  • رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى