هل الحروبُ العالمية قَدَرُ أوروبا أم صنيعَتُها؟

الدكتور فيكتور الزمتر*

تُعاني آسيا وأفريقيا وأوروبا، حاليًا، من ثلاثة جروحٍ نازفةٍ، أقلُّ ما يُقالُ فيها، أنَّها تُدمي القلوبَ وتخطفُ الأرواح، بوحشية شريعة الغاب، بقدر ما يَنْدى لها جبينُ الإنسانية المُنتهَكَة، شهادةً على ضُمور المشاعر الأخلاقية!

فالجرحُ الآسيويُّ يعكسُ تخاذُلَ الضمير العالمي عن إنقاذ أهل غزَّة من الإبادة في وَضَحِ النهار، وأمام أعيُن ومسامع المقتدرين الظالمين والمُتخاذلين قُساة القلوب. أمّا الجرحُ الأفريقيُّ، فيشهدُ على استمتاع دُعاة التحريض، برؤية دم هابيل على يد شقيقه قايين، مُوقِعين الأخَوَين بين شهيدٍ مغدورٍ وقاتلٍ جائعٍ.

وعلى بشاعة مُحاولة مسح قضية فلسطين من الوجود، وقتامة حرب الأخوة الألداء في السودان، فإنَّهما تبقيان محدودَتَين في الزمان والمكان، بالرُّغم ممّا تُسبِّبان من وَخزٍ للضمير الإنساني. وعليه، تبقى حربُ الأخَوَيْن الآخرَين السلاڤيين، بين روسيا وأُوكرانيا، الأكثر فتكًا وخطرًا على السلام العالمي، نظرًا لما يُمثِّلُه أفرقاؤها من ثقلٍ نوعيٍّ، على الصُعُد السياسيٍّة والإقتصاديّة والتكنولوجيّة والعسكريّة .

إنَّ البشاعةَ قاسمٌ واحدٌ تتشاركُ فيه جميعُ الحروب، لكونها تحملُ غريزة القتل. إلّا إنَّ أدماها تبقى تلك التي تُهدِّدُ الجنس البشري بالفناء. من هنا، خطورةُ الحرب بين الشعبين الروسي والأوكراني الشقيقين، التي، على مدى أربعين شهرًا، لم تتوقَّفْ عن بثّ الرُّعب في زوايا العالم، بسبب الخوف من انزلاقها إلى حربٍ عالميةٍ ثالثةٍ، قد تُطيحُ بمصير البشرية.

فخلال الأيّام القليلة المُنصرمة، حفلت تلك الحربُ بجملة مُستجدّاتٍ، تزامنت مع انعقاد جولة المفاوضات الثانية، في اسطنبول، وهجماتٍ أوكرانيةٍ غير مسبوقة في العمق الروسي وعلى الجسور وسكك الحديد، استدعت ردًّا روسيًّا عنيفًا على تلك الهجمات، المرعية بعنايةٍ بمُقَلِ الغرب الساهرة على تأجيجها.

لقد سبقَ للدسائسُ الغربية أنْ نجحت في دقّ اسفينٍ بين الشعبين الشقيقين، من خلال تأليب العصب الأوكراني على الإرث القومي والديني واللُّغوي المُشتركٍ مع روسيا. وفي حمأة العداء الأوروبي لروسيا، تبرُز مفارقةٌ مُزدَوِجةٌ، تتمثَّلُ في رعاية تركيا، إحدى أبرز دُوَل “مُنظَّمة التعاون الإسلامي”، وساطةً لوضع نهايةٍ لسفك الدماء بين العاصمتين الأُرثوذُكسيّتين الشقيقتين، موسكو وكييڤ، في وقتٍ يتربَّعُ على الرئاسة الأوكرانية مَن لا ينتمي إلى أيٍّ من الكنيستَين!

فالغربُ تنكَّرَ لعشرات ملايين الضحايا الروس، في الحربين العالميتين الأولى والثانية، دفاعًا عن أوروبا. والأدهى أنَّ الغربَ بذلك يتنكَّرُ لمصالحه القومية، من خلال تنكُّره لوحدة “أوراسيا” الجغرافية، وما تنطوي عليه من مكامن القُوَّة وتنوُّع الثروات والأدمغة، بعد أن قطعَ  التكامُلُ العضوي أشواطًا، عبر أنابيب الطاقة الروسية، المُشغِّلَة للعجلة الإقتصادية الأوروبية، ما كان يُغنيه عن أيَّة مظلَّةٍ أمنيةٍ من خارج مُحيطه القارّي!

غالبُ الظنّ، “وبعضُ الظنِّ إثمٌ”، أنَّ الدهاءَ الأنكلو-ساكسوني، الخارج عن الإتحاد الأوروبي، مُتوجِّسٌ من تكامل ووحدة الإتحاد الروسي مع الإتحاد الأوروبي، بدليل تفجير أُنبوب الغاز الطبيعي “نورد ستريم”، بين روسيا وألمانيا، يوم 27 أيلول (سبتمبر) 2022. فالغربُ، الذي غزا روسيا، مرَّتين عبر السهوب الأوكرانية المفتوحة: مرَّةً زمن نابوليون بونابرت (1812) وأُخرى زمن أدولف هتلر (1941)، يُدركُ ما تُشكِّلُه أوكرانيا من خاصرةٍ رخوةٍ لروسيا، تُمَكِّنُه من ضربها وتفكيك مداها الجغرافي وشرذمة مُكوِّناتها الديموغرافية، المُشكَّلة من أقوامٍ عدة، بعدما نجحَ بشقّ كنيستها عن كنيسة موسكو الأُم.

يرى البعضُ في “الإنشقاق العظيم”، الذي أحدث انقسام الكنيسة المسيحية، في العام 1054، بين كنيسةٍ أرثوذُكسية شرقيةٍ، قاعدتها بيزنطية، وأخرى كاثوليكيةٍ غربيةٍ، قاعدتُها روما، أساسًا للفراق بين الشرق والغرب. ومع ذلك، تكادُ التمايُزاتُ بين روسيا وأوروبا أن تكونَ عُضويَّةً، بفعل الجغرافيا والتاريخ والديموغرافيا، بالرُّغم من انتماء الفريقين إلى كُتلةٍ جغرافيةٍ متواصلةٍ، قبل أنْ يُقرِّرَ المِقصُّ السياسيُّ أنْ تكونَ سلسلةُ جبال الأورال الحدَّ الفاصل بين ضفَّتي “أوراسيا”، شرقًا وغربًا. وعليه، من الطبيعي أنْ يكونَ التنوُّعُ التوبوغرافيُّ والعرقيُّ والبيئي مصدرًا للتمايُز، الذي من شأنه أنْ يكونَ عاملَ غِنى سياسيٍّ وفكريٍّ وثقافيٍّ واقتصاديٍّ .. أكثر من أنْ يكونَ عاملَ تنافُرٍ وتباغُضٍ، اللَّهمَّ إذا تغلَّبت مَلَكَةُ العقل على غريزة التسلُّط والإستعباد.

لقد تراوحت العلاقاتُ بين روسيا الإمبراطورية والغرب الأوروبي، بين مدٍّ وجزرٍ. وفي العصر الحديث، تُعتبرُ “حربُ القرم” (1853-1856)، للسيطرة الروسية على شبه جزيرة القرم، أبرزَ المواجهات العسكرية بين روسيا والحلف الأوروبي الغربي، مُمثَّلًا بفرنسا وإنكلترا ومملكة سردينيا (إيطاليا)، والمُناصر، يومها، للسلطنة العثمانية. إلّا أنَّ الهوَّةَ بين الطرفَين زادت اتساعًا مع سيطرة البلاشفة على الحكم، في العام 1917، ودخول العامل الإيديولوجي المُناهض للّيبرالية الغربية، لا سيَّما مع  اتخاذ السوڤيات من مقارعة الإستعمار شعارًا برّاقًا للحكم الجديد. وكان من البديهي أن يشتدَّ الخصامُ بين الغرب والشرق، بُعَيدَ انتهاء الحرب العالمية الثانية على زغلٍ، وانقسام العالم بين مُعسكرين، غربي بقيادة واشنطن، وشرقي بقيادة موسكو، وقيام حلف شمال الأطلسي “الناتو” الغربي وحلف “وارسو” الشرقي (عُرف رسميًا ب”معاهدة الصداقة والتعاون والمعونة المشتركة”)، وسط اندلاع الحرب الباردة، وثُنائية الزعامة الدولية.

ويبدو أنَّ تحالفَ روسيا القيصرية مع أوروبا، في الحرب العُظمى (الحرب العالمية الأُولى) في العام 1914، وتحالُفَ روسيا السوڤياتية مع أوروبا، في الحرب العالمية الثانية، بين 1939-1945، لم يغفُرْ للروس انتصارَهم على جيوش فرنسا نابوليون بونابرت، في العام 1812، ولا انتصارَهم على جيوش ألمانيا الهتلرية، في العام 1945، لدى غزوهما للأراضي الروسية.

ولا بُدَّ، في هذا السياق، من إبراز أثر الثورة الصناعية، التي عرفها الغربُ الأوروبي، في القرن الثامن عشر، جرّاءَ النهضة العلمية، حيث أدَّت الإكتشافاتُ والأبحاثُ العلمية إلى اختراع الآلات، ونقل الإنتاج من النمط اليدوي إلى النمط الميكانيكي. وهذا ما شكَّلَ قفزةً نوعيةً سجَّلتها أوروبا الغربية في المرمى الروسي، الذي تأخَّرَ عن اللِّحاق بالنهضة العلمية، وبقي غارقًا، يومها، بانتهاج النمط اليدوي في الإنتاج، ما خلقَ، رُبَّما، النظرةَ الأوروبيةَ الدُونيةَ تجاه الشعب الروسي.

ديمومةُ نفوذ الدول الكُبرى، تستوجبُ جُملةَ مُتطلِّباتٍ تتمثَّلُ بالتوسُّع وبسط النفوذ “… ما مَلَكَتْ أيمانُها …”، وهذا ما يدفعُ الدُوَلَ المُقتدرة على ضبط قواها ودوزنة منزلتها على ساعة التوازُنات العلمية والعسكرية والجيوسياسية، فضلًا عن التسابُق على التحكُّم بالممرّات الإستراتيجية ووضع اليد على الثروات الطبيعية الدفينة.

فقياسًا على ما تقدَّمَ أعلاه، وفي ظلِّ العقلية الدولية السائدة، المُتمحورة حول الهيمنة والإستفراد، يصعبُ معها رأبُ الصدع بين الغرب وروسيا، لتناقُض نظرة كلٍّ منهما للآخر. ففي حين ترنو فيه روسيا إلى احترام الغرب لمكانتها ولحُرمة هويَّتها، يتشاوفُ الغربُ على روسيا وينظرُ إليها بعين الحاسد لاتساع مداها، ولما تنطوي عليه من ثرواتٍ، لا يتهاونُ إن صحَّ له تفكيكُها وشرذمةُ مكوِّناتها المُجتمعية.

إنَّ ما يُباعدُ بينهما كَمٌّ نوعيٌّ من الإختلافات السياسية والبنيويَّة المُتجذِّرة في الوجدان، لا سيَّما ما يتصلُ بالتناقُضات في نظرة كلٍّ منهما إلى القِيَم الأخلاقية والعائلية.

يبقى التذكير بأنَّ القارَّة الأوروبية كانت مسرحًا لحربين عالميَّتين، كلَّفتاها عشرات ملايين الضحايا وتشريد أقوامها ودمار ديارها. والحربُ العالمية المقبلة، إن كان لعمى البصيرة أنْ يتسبَّبَ بها، لا قَدَّرَ الله، لن تكونَ إلّا على أرضها وعلى حسابها. إنَّ مَآلَ الصراع المُسلَّح المُستعر حاليًّا، في وسط أوروبا، يتأرجحُ بين غُصن الزيتون وصليل السيوف. من هنا، الخشيةُ الكُبرى أنْ تكونَ المواجهة العالمية الثالثة قاضية، عفواً ثابتةً!

  • الدكتور فيكتور الزمتر هو كاتب سياسي وسفير لبناني سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى