سفارة، لا سفارات

راشد فايد*

حين يقول الأمين العام ل”حزب الله”، السيّد حسن نصرالله، أنَّ جلسة إنتخاب رئيس الجمهورية الماضية “أثبتت أنَّ مَن يُريدُ انتخابَ رئيس الجمهورية يجب أن يبتعد عن منطق التحدّي لصالح التشاور”، إنما يدعو خصوم هيمنته، وما يُمثّل، إلى “الإنصياع” وتأييد مرشّحه المُغَلَّف بالوفاق، كما يفهمه، وبـ”الميثاقية” المُفَصَّلة على قياس الإرغام الذي تَوَّجَهُ بالإتيان بميشال عون رئيسًا على ركام سنتَي فراغٍ دستوري، دمّر مقوّمات البلاد وعيش العباد، وجعل الفساد يُنافسُ الأرزة في عَنوَنة لبنان.

في أدبياته السياسية، وهي في مجملها تهديدات مُبهَمة أحيانًا، أو مواربة وواضحة إلى حدِّ الفجاجة أكثر الأحيان، يُلغي نصر الله الممارسة الديموقراطية، التي تقوم على سَنَدَي الأقلية والأكثرية اللتين أتى بهما الرأي العام عند اقتراعه في الانتخابات التشريعية، فيُحيل مجلس النواب إلى “اللويا جيرغا” وهي إحدى الآليات التقليدية لاكتساب الشرعية السياسية في أفغانستان، وكانت لها مكانة مرموقة في التاريخ السياسي لهذا البلد، وقد عاد نظام الطالبان إليها بعدما استعاد السيطرة باتفاق مع المُنسحبين الأميركيين، وبرعاية من قطر، بهدف إدّعاء الشرعية، المغطاة بآلاف من رجال الدين.

كان نصر الله طبق “اللوياجيرغا” حين أرغم خصومه، بفائض القوة والفوضى، على قبول ترئيس عون في قمة من المحاصصة السياسية التي نقضها الأخير مع دخوله قصر بعبدا.

حجّة الأمين العام للحزب المُسَلَّح أنه “لا يوجد فريقٌ واحدٌ يمتلك الأغلبية في البرلمان”، مُتجاهلًا أن رئاسة الجمهورية، من الاستقلال إلى زمن الوصاية الأسدية، كانت تؤول، باستمرار، إلى من يحظى بأغلبية أصوات النواب الناخبين في الدورة الثانية، ولم يُولد التوافق إلّا على يد القابلة السورية، وترتيبات غازي كنعان. وأن سليمان فرنجية، جدّ حليفه ومرشّحه، فاز بالرئاسة في العام 1970 بفارقِ صوتٍ واحد، فلِمَ التهويل بخراب البصرة لولا التصويب على استتباع البلاد لمحورٍ إقليمي لا تواتيه الديموقراطية ومنطقها السلمي؟

الجواب عند نائب الأمين العام الشيخ نعيم قاسم، الذي “يُترجم” ثنايا خطاب قائده بأن مَن يأتي إلى الرئاسة من خارج ما يُسمّيه “الاتفاق” هو “شخص استفزازي من صنع السفارات”، وأن هناك نوابًا صادقين يقفون بالمرصاد لمن يؤدي إلى هذا العبث”.

إذًا، الديموقراطية عبث، وإرغام الآخرين على التنازل عنها قمّة النضج السياسي، ورفض المَنطِقَين هو تنفيذ “أوامر من السفارات”، و”تحدٍّ للشعب”، كما قال، أما الخنوع لسفارة بعينها، يعرفها، فقمّة الديموقراطية.

خطابا نهاية الأسبوع الفائت قمّةٌ في الإبتزاز المُبَطَّن، ويدٌ من فولاذ التهديد بقفّازٍ من حريرٍ زائف، تمامًا كما زعْم أن ما ستحصل عليه اسرائيل من شركة “توتال” الفرنسية من عائداتها من حقل قانا ليس من عائدات لبنان، ولا محاصصة اسرائيلية معه، ستارها الشركة الفرنسية، إلّا إذا كانت اسرائيل جمعية خيرية يجوز التبرع لها، ومن حساب لبنان، وتحت أعين الحزب “المقاوم”.

يطرح الحزب اليوم ضرورة التفاهم على انتخاب رئيس، طبعًا بمواصفاته، بينما مطلوب التفاهم على قواعد عيشنا المشترك معه، فمن استطاع أن يتواصل” ويتوصّل، مع العدو إلى وضع ما يسميانه “قواعد اشتباك”، حريُّ به أن يضع مع شركائه في الوطن قواعد تعايش، أفضل أركانها الإقرار بحق الأكثرية أن تحكم، والأقلية أن تُعارض، وأن تمسك الدولة بقرار السلم والحرب، فلا يبقى سلاحٌ خارج قبضتها، يوارى خلف حديث ممجوج على استراتيجية دفاعية، أشبه بـ”الغول” و”الخل الوفي” في هذه الأزمنة المعاصرة.

  • راشد فايد هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @RachedFayed
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى