خرائط هوكشتاين: وِلادَةُ بيئةٍ دوليَّةٍ حاضِنَة

محمّد قوّاص*

لا يُمكن أن تكون تسوية المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين لترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل تطوّرًا مُفاجئًا أو غير مُتَوَقَّع. استند الرجل في مقترحاته على التنازلات اللبنانية التي تمّ تجميلها وقُدِّمَت كشروطٍ لا رجعةَ عنها، فحملها إلى الطرف الإسرائيلي فوفّر بدوره تنازلات تمّ تسويقها حقوقًا لا تَفاوُضَ حولها.

إحتاج إخراج الصفقة إلى ضجيج تصعيدي مُتبادَل من أجل إقناع الرأي العام لدى الطرفين بالنصر المبين الذي تمّ تحقيقه. كثّف الأمين العام ل”حزب الله”، السيّد حسن نصر الله، من “رشقات” تهديداته الصوتية. حتى المُسَيَّرات التي حامت فوق حقل كاريش أعلن “حزب الله” أنها غير مُسَلَّحة، ثم زوّدها بكاميرات نقلت صورًا “سرّية” عن أنشطة علنية تُجاهِرُ إسرائيل بها.

من جهته تولى رئيس الوزراء الإسرائيلي، يائير لابيد، وهو الذي يستعد وتحالفه لخوض انتخابات الكنيست ضد بنيامين نتنياهو وتحالفه، الردح المضاد. ساعدته في ذلك جوقةٌ من الوزراء والجنرالات الذين رفعوا مستويات الوعيد بحربٍ ضروس إذا ما منع مانع لبناني استغلال حقولهم. حتى أن رئيس الأركان الإسرائيلي أفيف كوفاخي زار باريس وأبلغها رسائل إسرائيل الجادة بشأن تهديدات “حزب الله” تولت سفيرة فرنسا في لبنان، آن غريو، نقلها إلى بيروت وإلى قيادة “حزب الله” بالذات.

والحال أن الجانب اللبناني هو الذي تميّز بمرونته “المُدهِشة” في التخلّي عن الخط 29 الذي لم يقبل المفاوض الأميركي والجانب الإسرائيلي النقاش بشأنه. كما “أبهرت” بيروت المفاوضين بالقدرة على المطالبة بالشيء ونقيضه، والتراجع عند أول حرد دولي إلى درجة لم تُبقِ أمام المفاوض اللبناني إلّا الردح غير المقنع الذي تطوّع به “حزب الله” وزعيمه.

أضاع لبنان وقتًا طويلًا بسبب جدل ساسته وغياب التفاهمات لاستغلال ثرواته من الطاقة. بدأت المفاوضات في العام 2020 من دون أن يجري إجماع بين المؤسسات السياسية حول تعريف حقوق لبنان.

سبق أن أودعت بيروت في العام 2011 خرائط تستند على الخط 23، بما يحصر التفاوض بمساحة بحرية تقدّر بنحو 860 كيلومترًا مربعًا. جرى لاحقا تنافس بين رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب على وجاهة الجهة المُخَوَّلة بالإمساك بملف المفاوضات. تسرّب من هذا التنافس خروج خريطة جديدة تستند على الخط 29 “تُصَحِّحُ” ما أُودِعَ لدى المنظمة الأممية وتُطالب بالبحث في مساحة 1430 كيلومترًا مربعًا إضافية تشمل أجزاء من حقل “كاريش”.

غير أن تحوّلات طرأت على المشهدين الدولي والإقليمي بمواكبة تسارع وتيرة الانهيار الاقتصادي في لبنان. بدا أن عالم الطاقة في شرق المتوسط يمدّ خطوطه ويقيم تحالفاته ويبرم اتفاقاته ويستعد لاستغلال حقول المنطقة غير عابئ بالعبث اللبناني داخل دولة تتجه إلى الفشل الكامل.

في لبنان مَن بدأ يتحدث بإسهاب عن خيار الطاقة لإنقاذ البلد من براثن أسوَإ أزمة اقتصادية منذ الاستقلال. فيما راجت تقارير دولية عن أن أعمال استخراج الطاقة لدى كافة الدول المعنية، بما في ذلك إسرائيل، ستؤدي حكمًا إلى خسارة لبنان ثرواته المباشرة وموجة استثمارات تاريخية تستدرج كبريات شركات الطاقة في العالم.

والأدهى أن لهجة الابتزاز والتهديد التي روّج لها “حزب الله” من داخل سياق مصالح طهران وحساباتها على طاولة مفاوضات فيينا، اصطدمت بذهاب إسرائيل نحو فرضِ أمرٍ واقعٍ من خلال استقدام سفينة إنتاج وتخزين وصلت في حزيران (يونيو) لتعوم بالقرب من حقل كاريش تمهيدًا لبدء استخراج الغاز منه. والأمر يكشف هزال خطاب السلاح وفائض القوة الذي يستخدمه الحزب وعجزه عن صون حقوق لبنان والدفاع عنها.

أسقطت بيروت على نحوٍ انقلابي مفاجئ مطالبها المستندة على الخط 29. استغنت برمشة عين عن 1,430 كيلومترًا مربّعًا من دون أي تفاوض أو مقابل. أقرت بذلك بإسرائيلية حقل كاريش مقابل المطالبة بحقّ لبنان الكامل باستغلال حقل قانا. ولئن لم يُفصِح الطرفان اللبناني والإسرائيلي عن تفاصيل الاتفاق العتيد، فإنه ليس واضحًا ما إذا كانت إسرائيل ستستفيد أيضًا ولو جُزئيًّا من حقل قانا الذي يقع جُزءٌ منه داخل منطقة ستحسب لصالح إسرائيل.

على أية حال فإن نضح التسوية، التي اعتبرتها الرئاسات اللبنانية إيجابية، وأسهبت في الترحيب بها المنابر الإسرائيلية الرسمية، يؤذن إلى تقاطع دولي ما أوصل الاتفاق إلى خواتيمه.

بالمقابل فإن إسرائيل ستستثمر هذا التطور داخل حملة انتخابات الكنيست التي تجري في الأولمن تشرين الثاني ( نوفمبر)، وستُدرجه الإدارة الديموقراطية في واشنطن ضمن إنجازاتٍ للتسويق عشية الانتخابات النصفية في الشهر المقبل، فيما يصادف الحدث، إذا تمّ تحقيقه، قبل أسابيع من انتهاء ولاية الرئيس اللبناني ميشال عون بما سيُعتَبَر أيضًا إنجازًا يُحسَب لعهده.

وحده بنيامين نتنياهو ينهل من الحدث مناسبة لشنّ هجوم على خصومه ومنافسيه لعلّه يسعفه في نيل الأغلبية المقبلة في الكنيست. يسعى في هذا السياق إلى التهديد الانتهازي بتعطيل مساعي الإدارة الديموقراطية في واشنطن بالوعد بأن الحكومة التي سيترأسها في حال فوزه وتحالفه في الانتخابات قد تلغي اتفاق ترسيم الحدود مع لبنان.

وعلى الرغم من هذه التهديدات لم يصدر عن بيروت، لا سيما عن “حزب الله” المطالبة بـ “ضمانات” تشبه، للمفارقة تلك التي تُطالب بها طهران الإدارة الأميركية الحالية بإلزام الإدارات المقبلة في حال تبدّلت هوية الحاكم في البيت الأبيض لتمرير الاتفاق النووي.

في كل الأحوال، يوحي الاتفاق ببيئة دولية حاضنة ربما تتعلّق بالحرب في أوكرانيا وتداعياتها على سوق الطاقة. لكنه قد يوحي أيضا باحتمالات ترتيب الوضع اللبناني بشقّيه السياسي والاقتصادي على نحوٍ يلاقي ورش ما بعد ترسيم الحدود.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى