لبنان وتَحَدّي تكوينِ سلطةٍ جديدة
الدكتور ناصيف حتّي*
يَتَّفِقُ الجميع على أنَّ لبنان ذاهبٌ إلى الانهيار الكُلّي أو ما يُسَمّيه البعض الإرتطام الكبير. ويرى كثيرون إننا وصلنا إلى ربع الساعة الأخيرة قبل حدوث ذلك. كما إنَّ سياسةَ المراهم ومحاولات تربيع الدوائر، والهروبَ إلى الأمام، وتبادُلَ التُهَم بين أطرافِ السلطة الحاكمة حول المسؤولية عمّا وصل إليه لبنان، لم تَعُد تُجدي، فالكلُّ مسؤولٌ. شهاداتُ بعضِ الأطراف الدولية التي عملت أو تعمل على “الملف اللبناني” تَتّفق حول توصيف وتحديد مُسَبِّبات الأزمة/الكارثة وحول طبيعة الخروج منها: لجنة الأمم المتحدة الإقتصادية والإجتماعية لغرب آسيا (إسكوا) ذكّرتنا أنه إذا ما أخذنا معيار الفقر المُتعدّد الأبعاد (يشمل ضمن ما يشمل الصحّة والأمن الاجتماعي والخدمات العامة) فإنَّ حوالي ٨٢ في المئة من اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر. وقد زادت هذه النسبة منذ صدور التقرير. المُقرّرُ الخاص للأمم المتحدة المعني بمسألة الفقر المُدقع وحقوق الإنسان، أوليفييه دي شوتر، تحدّث في تقريره بعد زيارته بيروت عن مخاطر الفروقات الاجتماعية الهائلة في لبنان، وتساءل: أينَ أنفقَ القادةُ السياسيون المواردَ خلال عقودٍ من الزمن “مُتجاهلين الحاجة الى سياساتٍ اجتماعية، خصوصًا تلك التي تتعلّق بالرعاية الاجتماعية”، مُتَّهِمًا السلطة بإغراق لبنان في فقرٍ مُدقع عبر سياساتها.
تقريرُ مجموعة البنك الدولي الصادر هذا الصيف يتحدّث بدوره عن فشل السياسات الكُلِّية والهيكلية في تقديم الخدمات الرئيسة في القطاعات الأساسية مثل الماء والكهرباء والنقل والصحة والتعليم والحماية الاجتماعية. بعثة صندوق النقد الدولي أشارت، بعد التوصّلِ إلى اتفاقٍ مع الجانب اللبناني (ما يُعرَف باتفاقِ الموظفين) الذي يُهيّىء للتفاوض لاحقًا حول البرنامج الإصلاحي المطلوب تحقيقه من طرف لبنان للحصول على المساعدة من الصندوق، إلى ضرورة تعزيز الحَوكمة والشفافية وزيادة الإنفاق الاجتماعي والاستثماري. هذه المساعدة التي اعتبرها أكثر من طرف عضو في مجموعة الدعم الدولية للبنان أنها بمثابة التأشيرة الضرورية للحصول على الدعم الدولي، باعتبار أن لبنان قد قام بالإصلاحات المطلوبة من طرف الصندوق.
أشرنا إلى هذه الأمثلة للدلالة على ما تجب ان تكون عليه بالفعل الأولوية في لبنان التي نختصرها بأولوية الإصلاح الهيكلي الشامل وبالطبع التدرجي. وللتذكير فإنَّ الأزمة المالية بتداعياتها الكارثية تعكس بالأساس أزمةً اقتصادية تتعلّق بطبيعة النظام الاقتصادي اللبناني وكيفية إدارته. وهي أزمةٌ أيضًا سياسية بامتياز تتعلّقُ بطبيعة النظام السياسي القائم بالواقع على فيدرالية من الطائفية السياسية التي تُغذّي وتتغذى على الزبائنية والمحاصصة وعلى شخصنة السلطة على حساب بناء وتعزيز دولة المؤسسات التي تقوم على الحوكمة الجيدة والشفافية والمساءلة. ما نشهده اليوم من نزيف وطني، بسبب تفاقم هذه الاوضاع، تُعبّرُ عنه هجرةٌ كبيرة من قطاعاتٍ أساسية واستراتيجية مثل الصحة والتعليم ومن الشباب الجامعي الباحث عن المستقبل المستحيل في بلده ضمن الظروف القائمة، وكذلك تزايد هجرة مراكب الموت (الهجرة اللاشرعية) هربًا من الموت البطيء كما وصفها أحدهم عن حق.
يحصلُ ذلك الذي هو نتيجة تراكمات كبيرة، عشية ربع الساعة الأخيرة من استحقاقٍ دستوري أساسي (إنتخاب رئيس للجمهورية) ومن تشكيل حكومة في ظلِّ حروب الاجتهادات الدستورية. الحروب التي تُحاوِلُ أن تخفي اشتداد حدّة الصراع في لعبة “تقاسم الجبنة”، جبنة السلطة، أيًّا كانت العناوين التي يَتغطّى بها اللاعبون والعصبيات السياسية والهويّاتية الكبرى التي تُوَظَّفُ في هذه المعركة. أضف إلى ذلك الرهان الدائم على انتظار الحلّ من الخارج مثل التوصّل إلى تفاهمٍ بين الأطراف الخارجية الفاعلة في لبنان عبر حلفائها وأصدقائها، أو الرهان على انتصارِ الحليفِ الخارجي على حليفِ الآخَر. تاريخ لبنان السياسي يُقدّمُ الكثير من الأمثلة على لعبة الرهان على الخارج. صحيحٌ أن تفاهمَ الخارج ولو بالحدِّ الأدنى أمرٌ يُسَهِّلُ بشكلٍ كبيرٍ الخروجَ من الأزمة، ولكن هناك مُتغيِّرات أساسية تفرض عدم الرهان على لعبة الإنتظار: إنتظارُ الخارج مع نكران الجميع لهذا الواقع. فكما اشرنا سابقًا، الظروف المأسوية في لبنان المفتوحة على أسوَإ أنواعِ التطورات لم تَعُد تسمح بسياسةٍ تقوم على ترف الانتظار: لبنان اليوم بحاجة إلى مشروعِ إصلاحٍ هيكليٍّ شاملٍ بغضِّ النظر عن الوضع السياسي في البيئة المُحيطة بلبنان. كذلك تجب الاشارة إلى حالة التأزّم وتداعياتها السلبية الكبيرة والمتعددة التي تعيشها مختلف بقاع العالم ومنها الشرق الأوسط بسبب المواجهات الدولية عبر الحرب الدائرة في أوكرانيا وحول أوكرانيا. أضف إلى ذلك الأوضاع الاقتصادية الصعبة في الشرق الأوسط التي لم تعد كما كانت بالأمس القريب والبعيد ولأسبابٍ مختلفة، وقد زادت من حدّتها الصراعات المُختلفة الأوجه في الإقليم وتغيّر الأولويات أيضًا، كلّها عناصر لا تجعل لبنان في طليعة الأولوِيّات الإقليمية.
المطلوب اليوم كشرطٍ أساس لولوجِ باب الخروج من المأزق الكارثي الذي يعيشه لبنان، وبالتالي تلافي الإنهيار الكلّي، إحترام الاستحقاق الدستوري كشرطٍ ضروري ولكن بالطبع غير كافٍ. المطلوب العمل على تكوين سلطة جديدة تلتزم بعملية إصلاحٍ شامل: عمليةٌ تقوم على ثُلاثية أوّلها وجودُ رؤيةٍ إصلاحية والتزامٍ بوضع تلك الرؤية موضع التنفيذ، وخريطة طريق تحمل جدولًا زمنيًا للتنفيذ. من أولى تحديات السلطة الجديدة إطلاق هذه العملية المُشار إليها والالتزام بتنفيذها. الخلافاتُ السياسية الداخلية ظاهرةٌ طبيعية وصحّية طالما بقيت تحت سقف الدولة، وطالما اتفقت على وجود مسؤولية مشتركة لإنقاذ “المركب اللبناني” من الغرق كما حذّرنا دائمًا. فإذا غرق المركب لا سمح الله فالجميع خاسرٌ. مسؤولية بدء رحلة لإنقاذ اليوم قبل الغد، تبدأ عند اللبنانيين. بعدها نستطيع ان نُطالِبَ بالمساعدة من الأصدقاء دولًا ومنظمات دولية لأن استقرارَ لبنان المجتمعي والفعلي مصلحة للجميع وللإستقرار الإقليمي ولقيام لبنان، وهذه مسؤولية وطنية اساسية. تحصينُ البيت الوطني يستدعي أيضًا بلورة سياسة خارجية ناشطة ومبادرة على الصعيدين الدولي والإقليمي: سياسة تبني الجسور مع الإقليم وتُسهّل الحوار وإطفاء الحرائق التي تطال شراراتها، أوّل ما تطال، البيت اللبناني.
حان الوقت للتفكير “خارج الصندوق” كما يُقال لإنقاذ الوطن.
- الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
- يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).