الفساد 2 بـ1

راشد فايد*

يتبارى أهل السلطة، من الأبوية التناسلية إلى المعنوية، من دينية ومدنية وعسكرية، في لعن الفساد، والتعجّب للفشل في إيجاد منافذ لمغادرته، فيكاد اللبناني يحار أمام هذا الإستبسال الوطني، اللفظي، لحفظ المال العام، ويكاد يتّهِم نفسه بالمسؤولية عن تنامي الفساد وانتشاره، ويتوهّم أن الزعماء، ومن يشابههم، ضحايا الشعب، وليس العكس.

يكاد الجو السياسي يجمع على تنزيه الخليط السياسي- المالي-الإقتصادي عن مسؤولية الفساد الناهب لمال البلد وموارده، بتجهيل الفاعل في أكبر عملية تواطؤ بين الجاني والمجني عليه، وهذا بذاته ما يجعل السنوات تمر منذ 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019 إلى الغد وبعده، من دون أي جديد عن تهريب الأموال، وتحقيقات تفجير المرفإ، وتفاقم إفلاس الدولة الواضح وغير المعلن.

يصعب القبول بأن الفساد صنعة “الكبار” وحدهم، فإذا كان في الأمر بعض الحقيقة، فبعضها الآخر يفيد بأن الفساد من طبيعة اللبنانيين بتفاوت، وإذا كان الغرم بالغنم فإن من ينال ما يسمى “البقشيش”، كوجه من وجوه الفساد المستتر، ويسمى “إكرامية” تلطيفًا، لا يتساوى مع من يختلس مساعدات دولية، ويصادر مشاعات بلدية، وشواطئ عامة، وما على شاكلة ذلك، لكن تعريفات الفساد المتداولة عالميًا، لا تُميِّز أخلاقيًا بين الإثنين.

عرّف البنك الدولي الفساد بأنه شكلٌ من أشكال خيانة الأمانة، وفي تعريفٍ آخر، أنه مجموعة أعمال غير نزيهة، كقبول رشاوى وهدايا غير الملائمة، وتمرير معاملات غير قانونية، والغش أو الخداع، والتلاعب في الانتخابات ونتائجها، وتحويل الأموال وغسلها، والاحتيال، والتعامل المزدوج، والمعاملات السرية، والاحتيال على المستثمرين، وغيرها.

المحزن أن كل هذه الأشكال متوافرة في لبنان، في وضوح وعلنية، لكن التواطؤ التلقائي يُغلّف نجوم الفساد، وغير نجومه، مع رهان الجميع أن الإنسان من النسيان، بدليل أن أمراء حروب 1975-1990، لا يُسألون عن منابع ثرواتهم، من أموال وعقارات، كما لا يُسأل من جنوا ثرواتهم تحت عباءة الوصايا الأسدية. وما بعد التسعينات إلى اليوم ليس بأنزه مما كان قبلًا، وقصص وزارة الطاقة والسدود، وانتقال ملكية عقارات بلدة بأكملها إلى صاحب “الحظ الذي لا يخيب”، وقس على ذلك التلزيمات العامة، كالمطامر واستعصاء الأملاك البحرية على استعادة الدولة حقوقها.

استنزف اللبنانيون، بشبه إجماع وطني، كل أنواع الفساد، من الثانوي أو الصغير، كدفع أموال غير مستحقة (البقشيش و”الكمشنة”)، إلى الفساد الضخم، كإجبار المستثمرين في المشاريع على توظيف محاسيب الزعيم، ونيله حصصًا في أسهمها، وتغطية المختلسين، وصرّافي الزواريب، وموزّعي المخدرات، بالجملة والمفرق، وحماية شبيحة الفانات و”الفاليه باركنغ” وغيرهم. كل ذلك يعكس انخفاضًا في الحس الوطني، وتناميًا للإنشداد الطائفي والمذهبي، وتعزيزًا للأطماع الشخصية في المال والسلطة، وتعميقًا للتغاضي عن الفساد والفاسدين، في غياب أي إدانة أخلاقية لهؤلاء، أو إجتماعية، بل تشجيع. وعلى رواية الرئيس الراحل الأمير فؤاد شهاب، فإن اللبنانية، عمومًا، حين يجد ابنها وظيفة جديدة، لا تسأله عن راتبه، بل كم ينتظر من بقشيش خلال الشهر. فالفساد رفيق لبنان، ربما منذ زمن الفينيقيين، نمّاه “تقاعس متعمّد” وفق تشخيص “البنك الدولي”، فلم ينجح، منذ صار “كبيرًا”، في ممارسة سياسة متبصّرة، وتخطيط إقتصادي، وتنمية إجتماعية، واحتكر، بجدارة، صورة الدولة العاجزة عن ضمان أمنها الإنساني، وحماية الأرض وناسها.

  • راشد فايد هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @RachedFayed
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى