فَرحَةُ العرسِ في ذاكرةِ الريشة (2 من 2)

مارتن فان مايْتِنْز: “عشاء العرس” (1763)

هنري زغيب*

مَرَّ في الجزء الأَول من هذا المقال أَنَّ من لوازم العرس، تحضيرًا واستعدادًا، تكليفَ مصوِّر فوتوغرافي يلتقط صُوًرًا للتحضيرات ومفاصل الاحتفال تؤَرِّخ الحدَث التاريخي في حياة العروسَين. كان هذا في الماضي الوسيط والقريب. لكن العصر اليوم تطوَّر من مجرد الصور الجامدة العادية إِلى تصوير الفيديو يوثِّق بالطريقة السينمائية تفاصيل العرس بما تلتقطه الكاميرا من استعدادات ومدعوُّين وحضور، تضاف إِليها لقطات متفرقة يقوم بها أَهل وأَقارب ومدعوُّون بهواتفهم الجوالة ويبثُّونها لاحقًا بوسائط التواصل الإِلكتروني المتعدِّدة، تأْريخًا احتفالَ العرس ومفاصلَه المتتالية. غير أَن احتفال العرس قبل ولادة كاميرا الصورة والفيديو، كان يتمُّ تأْريخُه بتكليف رسام بارع يرسم العرس في أَهم لحظاته، كما يقترحها الرسام أَو بناءً على اقتراح العروسين.

فخامة العرس لسيد العرش

مارتن ڤان مايْتِنْزْ الابن (1695 – 1770) رسَّام سويدي نمساوي من وسط أَرستقراطي، عاش في بيئة محاطة بنُخبة المجتمع النمساوي المميَّزة. وهو من أُسرة فنانين. لذا نشأَ باكرًا في صُحبة الريشة، وتطوَّرت موهبته حتى بلغ أَن يكون سنة 1732 رسَّام البلاط الملَكي المعتَمَد، وأَكثر: مدير “أَكاديميا ڤيينَّا للفنون الجميلة”. “عشاء العرس” (1763) هي من أَشهر لوحاته، رسم فيها عشاءً فخمًا ضخمًا دعا إِليه القصر الملكي. يظهر في اللوحة سيّد العرش النمساوي جوزف الثاني وعروسُه الأَميرة إِيزابيلَّا پارما مساءَ الخامس من تشرين الأَول/أُكتوبر 1760 في قصر هوفبُرغ (ڤـيـيـنَّا). وكان مايْتِنْزْ وضع خمس لوحات متتالية، في أَوضاع مختلفة ولحظات مختلفة، لتخليد ذاك الاحتفال الضخم.

في لوحته “عشاء العرس” تبدو في وسط القاعة الشاسعة الواسعة من القصر طاولةٌ كبيرة ذاتُ 14 مقعدًا. شاءَ الرسام توقيتها لحظةَ النُدُل الأَنيقو الملابس يقدِّمون الفواكه بعد العشاء للضيوف الجالسين الأَربعة عشر. وليس في اللوحة ما يدل على أَن سائر الضيوف في القاعة أَو على الشرفات نالوا حصتهم من الفواكه بعد العشاء.

“العرس الهندي” (1680)

لحظةُ الصورة التذكارية

تنتشر في البيوت عادةً صورةٌ تذكارية في تقليد طبيعي أَن يقف العروسان، قُبَيل العرس أَو بُعيدَه، أَمام المصوِّر في لحظةٍ هانئةٍ  لالتقاط الصورة التذكارية. لم يكن هذا التقليد معروفًا في الماضي لأَن كاميرا التصوير لم تكن وُجِدَت بعد، ولا كان في مستطاع كل عرس أَن يكون فيه رسام يلتقط هذه الهنيهة. لكنَّ الرسام الفرنسيَّ الولادة البرازيليَّ النشأَة پاسكال أَدولف بوڤريه (1852 – 1929)، وكان من أَشهر رسامي عصره في القرن التاسع عشر وعضوًا في “أَكاديميا الفنون الجميلة”، سجَّل هذه اللحظة في لوحته “الصورة التذكارية” فرسم مصوِّرًا فوتوغرافيًّا في الستوديو يستعدُّ أَن يلتقط لعروسَين صورةً تذكارية في مطالع عهد التصوير الفوتوغرافي. وكان الرسام فترتئذٍ مأْخوذًا بهذا الاختراع.

الستوديو مفروضٌ أَنه هنا في پاريس، لكنه فعليًّا في ڤيزول (فرانش كونتيه، شرقيّ فرنسا)، كما يبدو من اللافتة الصغيرة فوق الباب المفتوح في مقدمة اللوحة. وواضح في الغرفة جوٌّ حيويٌّ وحوارٌ مع الآخرين الموزَّعين حول العروسَين الواقفَين على المنصة في وسط القاعة. وكان لهذه اللوحة صدًى فوقَ التَوَقُّع لدى ظهورها في معرض پاريس 1879، لِما فيها من تفاصيل صغيرة مذهلة الدقة في ملامح الموجودين فردًا فردًا، وفي ثيابهم ووقْفاتهم. وعن مؤَرخي تلك المرحلة أَن الرسام كان هو ذاته يتهيَّأُ لإِقامة عرسه فترةَ رسَمَ هذه اللوحة.

سيدني برايور: “زواج الأَميرة لويزا” (1890)

العرس الهندي

تتميَّز الأَعراس في الهند ببهرجة الأَلوان في الملابس، وفي الأَزياء المحلية أَو الوطنية الجميلة، وفي التقاليد الفريدة ببعض غرابتها وبعض طرافتها، وفي الاحتفالات التي غالبًا ما تدوم بضعة أَيام. وهذه اللوحة (“احتفال عُرس في حضور البراهما” -1680) هي من نخبة الأَعمال المجموعة لدى “معهد أَجمير” في راجاستان (شمالي الهند)، وفيها احتفالٌ جليلٌ لعرس تدُل ملامح مَن فيه على هيبة سر الزواج أَمام منصة النار المقدسة.

في اللوحة، يَظهر العروسان تحت “خيمة الـمَنْدَب”، وتَظهر فيها فخاريات مصفوفة عموديًّا فوق بعضها البعض، مزركشة بأَوراق المانغو العريضة، فيما كاهنٌ بوذيٌّ يقوم بطقوس العرس التقليدية القديمة، والعروسان جاثيان أَمامه بتقوى عميقة وانتباه شديد، يد العروس مشبوكة مع يد العريس، وفي مقدمة اللوحة: الإِله الهندي براهما يراقب الاحتفال، تدل عليه خيالات رؤُوسه الأَربعة وملامحه التقليدية.

العرس الملكي

هذه اللوحة وضعَها الرسام البريطاني سيدني پرايور هول (1842 – 1922) بطلب من إِدوارد السابع أَمير ويلز (منطقة في الجنوب الغربي من بريطانيا العظمى). تمثِّل اللوحة عرس النبيل أَلكسندر داف والأَميرة لويزا ابنة الملك إِدوارد السابع والملكة أَلكسندرا. العروس نسيبة العريس لكنها أَصغر منه. يجري العرس في قصر باكنغهام الفخم، العروسان جاثيَان أَمام المذبح، العروس تبدو مضطربة، ويكلِّل العروسَين أُسقفُ كانتربري في 27 تموز/يوليو 1889. الكنيسة – المزدانة بباقات الزهور وأَلياف النباتات الاستوائية العريضة – مكتظة بالمدعوين من لوردات وأَسياد وأَعيان ووصيفات العروس اللابسات الثوبَ الزهريّ الخاص بهذه المناسبة.

يطول الحديث عن الأَعراس في الأَعمال الفنية، لِما شهِد الرسم من روائع سجَّلَت هذا الحدث السعيد في لوحات خالدة. سوى أَنني اخترتُ باقة منها ضئيلةً، نماذجَ وأَمثلة. إِنه الفن، هذا الفضاء الرائع الذي حدودُه المدى المرصَّعُ بالنجوم، وفيه دائمًا مدًى جديد لنجوم جديدة.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى