كَيفَ سيطرت طهران على القضية الفلسطينية

كانت العملية التي نفّذتها حركة “حماس” ضد إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر) بمثابة خطوةٍ رئيسة في الجهود الإيرانية للسيطرة على القضية الفلسطينية.

السيد حسن نصرالله واسماعيل هنية: تنسيق تام بينهما.

مايكل يونغ*

أطلقَ الهجومُ المُفاجئ الذي شنّته حركة “حماس” الفلسطينية في 7 تشرين الأول (أكتوبر) ضدّ إسرائيل آلاف التعليقات والتكهّنات. هناكَ بالفعل الكثير مما يُمكن استخلاصه من هجمات المنظمة ضد البلدات الإسرائيلية، وقتلها العشوائي للإسرائيليين، واختطافها لأفرادٍ عسكريين ومدنيين إسرائيليين، وإطلاقها آلاف الصواريخ على البلدات والمدن الإسرائيلية. لكنَّ الشيءَ الوحيد الذي لا يُمكِنُ إنكاره هو أنَّ ما رأيناه، وما زلنا نراه، في غزّة هو استيلاء إيران العدائي (hostile takeover) على القضية الفلسطينية.

على ما يبدو، هناك قليلٌ من الشك في أن تكتيكات “حماس” كانت بالتنسيق مع إيران و”حزب الله”، الذي أعدَّ نفسه وخطّط قبل سنواتٍ عدة للقيام بأعمال هجومية ضدّ بلداتٍ في الجليل من خلال حفر الأنفاق تحت حدود لبنان مع إسرائيل. لقد كانت الاتصالات بين “حزب الله” و”حماس” و”الجهاد الإسلامي” واضحة للغاية في الأشهر الأخيرة، حيث أصبح كبارُ قادة المنظمتَين الفلسطينيتَين مُتَمَركِزين الآن في بيروت. ومن خلال التخطيط لمثل هذه العملية المُدَمّرة، قدّمت كلُ هذه الأطراف نموذجًا بديلًا من نموذج السلطة الفلسطينية البائسة، التي فقدت التأييد الشعبي وتذبل تحت قيادةٍ عجوز فاسدة.

ويتعيَّنُ علينا أن نفهمَ الجولات الأخيرة من القتال في مخيم عين الحلوة، وهو أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين في لبنان، بين حركة “فتح”، المنظمة الفلسطينية الرئيسة، والجماعات الإسلامية الفلسطينية الأصغر حجمًا، في هذا السياق. ورُغمَ أن “فتح”، التي هَيمَنت على المُخيَّمات لفترةٍ طويلة، لم تُهزَم، إلّا أَّن قوّتها، كما يبدو، تآكلت. وقد أنكرت “حماس” أيَّ دورٍ لها في القتال، لكن العديد من المراقبين في لبنان يعتقدون أن الجماعات الإسلامية استفادت من المساعدة الهادئة التي يقدمها “حزب الله” و”حماس”. علاوة على ذلك، لعبت “حماس” دور الوسيط الرئيس في الصراع، مما عزَّزَ دورها. لا شكَّ أن “حماس” و”حزب الله” يُدرِكان أنه نظرًا إلى حجم الدعم الذي تحظى به “فتح”، فإن عملية إضعافها سوف تستغرق وقتًا طويلًا وسوف تتأثر بما يحدث في رام الله، وخصوصًا إذا أدّت خلافة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى اتساع الخلافات داخل “فتح”.

هناك مَن يُجادلُ بأنَّ هجومَ “حماس” كان مُرتَبِطًا بما يبدو أنه اتفاق سلام وشيك بين الرياض وإسرائيل. ومن المؤكد أنَّ التصريحات الأخيرة التي أدلى بها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لشبكة “فوكس نيوز” الأميركية أشارت في هذا الاتجاه. وفي الوقت نفسه، أشارت تقارير إخبارية مختلفة إلى أنِّ تأمين التنازلات للفلسطينيين لم يكن أولوية بالنسبة إلى السعوديين. إن عرقلة المزيد من الاتفاقيات العربية-الإسرائيلية هو هدفٌ إيراني حيوي، لأنَّ طهران لا تريدُ مواجهة جبهة إقليمية مُوَحَّدة مُعارِضة لها. ولكن، فإن الأمور تتجاوز ذلك.

القضية الفلسطينية تقف على مُفترَق طُرق. يبلغ عمر عباس (أبو مازن) الآن 87 عامًا، وشعبيته في أدنى مستوياتها على الإطلاق. وقد انعكسَ هذا المزاجُ السيّئ في استطلاعٍ للرأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في حزيران (يونيو) 2022، وأظهر أيضًا أن 55% من الفلسطينيين يؤيدون العودة إلى الانتفاضة المسلحة. وتُراقِبُ إيران و”حزب الله” بعناية الاستياء في المناطق الفلسطينية. وما سعيا إلى القيام به هو خلقُ خطابٍ مُضادٍ لخطابِ عملية السلام وحلّ الدولتين. إنهما يريدان الإظهار أنَّ إسرائيل يمكن هزيمتها، وبالتالي فإن ما يحتاجه الفلسطينيون هو قيادة يمكنها تحقيق مثل هذه النتيجة.

لذا، يبدو أنَّ إيران مُنخَرِطة في عمليةٍ تتألف من ثلاثِ مراحل: إضعاف “فتح”، وتقديم نموذج بديل للعمل الفلسطيني، ودفع “حماس” إلى الأمام باعتبارها منظمة قادرة على أن تصبح في نهاية المطاف الممثّل الرئيس والشرعي للشعب الفلسطيني. وجاءت إشارة بسيطة إلى هذا الطموح في مقالٍ نُشِرَ أخيرًا حول القتال في عين الحلوة في صحيفة “الأخبار” اللبنانية اليومية، التي تُعتَبَرُ بمثابة الناطق بلسان “حزب الله”. وفي العنوان، لاحظت الصحيفة أن “حماس” سلبت من “فتح” صفة “الممثل الشرعي والوحيد” للفلسطينيين، في مقالٍ لم يتطرّق بشكلٍ مباشر إلى هذه المسألة.

أما المرحلة التالية، بمجرّد أن يهدأ العنف، فسوف تشتمل على إجراءِ مفاوضاتٍ لتأمين عودة العشرات من الإسرائيليين الذين اختطفتهم “حماس”. ومن الصعب أن نتصوّرَ أن هذا لن يؤدّي مقابل إطلاق سراح عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين. ومن شأن هذه المفاوضات أن تضع “حماس” في مقعد القيادة، وتزيد من إذلال إسرائيل والسلطة الفلسطينية. إن ما حققته “حماس” من مكاسب سوف تكون في المقابل خسارة ل”فتح” التي تجد نفسها محاصرة من كل جانب. من الصعب أن نرى كيف ستخرج “فتح” من مأزقها، خصوصًا إذا جرت الانتخابات الفلسطينية مرة أخرى في نهاية المطاف.

إنَّ الإيرانيين يستغلّون ببساطة الجمود الذي دام عقودًا من الزمن في صيغة “الأرض مقابل السلام”، ثم فشلها في نهاية المطاف. ويمكن إلقاء اللوم على كلٍّ من الفلسطينيين والإسرائيليين، لكن الحكومة الإسرائيلية الحالية سعت إلى التحرّك بشكلٍ نهائي إلى ما هو أبعد من حلّ الدولتين من خلال رفض فكرة الدولة الفلسطينية والنظر في ضمّ أجزاءٍ كبيرة من الضفة الغربية. وبالنسبة إلى الفلسطينيين، فإنَّ غيابَ أيّ أُفُقٍ يتجاوز خضوعهم إلى أجل غير مسمى للاحتلال الإسرائيلي، وعدم رغبة السلطة الفلسطينية، أو عدم قدرتها، على تغيير هذا الوضع، أصبح مصدرًا للاستياء الشديد. وقد أخذت إيران علمًا بذلك.

وعندما وقّعت دولٌ عربية عدة وإسرائيل على ما يسمى باتفاقيات أبراهام، اعتقد الفلسطينيون أن إخوانهم العرب قد تخلّوا عنهم. وقد خَلَقَ هذا فرصة كبيرة لطهران للعب على حقيقة أن الشعوب العربية، مهما كانت تفضيلات قياداتها، ما زالت معارضة بشدة للسلام مع إسرائيل. في ضوء ذلك، من العدل القول إنَّ الكثيرين من العرب قد هلّلوا وأيّدوا ما حدث في 7 تشرين الأول (أكتوبر). وهذا سيزيد من الضغط على جميع الأنظمة العربية التي أبرمت اتفاقيات سلام مع الإسرائيليين، وخصوصًا المملكة العربية السعودية، التي لا تزال تفكر في القيام بذلك.

بالنسبة إلى إيران، يُعتَبَرُ القتالُ جُزءًا من صراعٍ إقليمي على النفوذ. وبينما كان الأميركيون والأوروبيون، بتشجيعٍ من إسرائيل، يتصرّفون وكأنَّ مصيرَ الفلسطينيين ثانويٌ بالنسبة إلى التسويات بين الدول العربية وإسرائيل، تبنّت طهران نهجًا معاكسًا. لقد وضعت الدول العربية التي وقّعت على اتفاقيات أبراهام في تناقض، لأنها وافقت جميعها على مبادرة السلام العربية لعام 2002 التي رعتها السعودية، والتي وضعت شروطًا للاعتراف العربي بإسرائيل. ما أكّدته اتفاقيات أبراهام هو أن الموقّعين العرب أصبحوا الآن على استعدادٍ للاعتراف بإسرائيل مقابل لا شيء، مما يقوّضُ المبادرة العربية.

ويتلخّص نفاقُ إيران في أنَّ المسارَ الذي ترسمه، أو على وجه التحديد تجديد النضال الفلسطيني المسلّح، من غير المرجح أن يجلبَ للفلسطينيين الحقوق التي يستحقّونها. بل على العكس من ذلك، فإن اندلاعَ العنف المسلّح في الضفة الغربية، على غرار ما حدث في غزة، من شأنه أن يؤدّي في الأرجح إلى صراعٍ رهيب يؤدي إلى نزوحٍ جماعي للفلسطينيين عبر الحدود الأردنية. ولن يُسمَحَ لهؤلاء الفلسطينيين بالعودة، بالطريقة عينها التي لم يُسمح بها للفلسطينيين الذين غادروا في العامَين 1948 و1967 بالعودة. وسوف يواجه الفلسطينيون جولة جديدة من التطهير العرقي، والتي سوف يصاحبها زعزعة استقرار النظام الملكي الأردني. وهذا سيمثّل مسمارًا آخر في نعش النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط.

مهما قيل ويُقال عن الإيرانيين، فقد فهموا أن القضية الفلسطينية لا تزال حيّة إلى حدٍّ كبير، وأنهم من خلال استغلال ذلك يمكن أن يلحقوا الضرر بمنافسيهم العرب، في حين يقوّضون أيضًا وضع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. والمبادرة الآن في أيديهم. قد يكون هذا أمرًا مؤسفًا، لكن أي شخص يتابع الشؤون الفلسطينية عن كثب كان بإمكانه أن يتوقع شيئًا كهذا آتٍ.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى