إيران في سوريا: استعادةُ ما سَطَت عليه موسكو!

محمّد قوّاص*

أن يَقومَ الرئيس السوري بشار الأسد الأحد الماضي بزيارةٍ إلى طهران، فهذا خبرٌ إيراني وليس سوريًا. وأن يقوم قبلها بزياراتٍ للإمارات وروسيا فتلك أخبارٌ إماراتية وروسية أيضًا. وفق ذلك تجب قراءة ما ترومه العواصم المعنية من استقبال الرئيس السوري وما تبعثه من رسائل إلى مَن يهمّه الأمر.

أرادت إيران من خلال حدث زيارة الأسد الكَشفَ عن مواقف قديمة-جديدة تُخاطِبُ بها القريب والبعيد. ففي عزِّ انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا وتَدافُع تقارير عن سحبِ قواتٍ لها من سوريا لصالح معاركها هناك، فإن طهران، في مرحلة الحديث عن “يأس” من إمكانية إبرام اتفاق في فيينا، تُعيدُ تسليطَ الضوءِ على أوراقها في سوريا، مُعتبرةً من خلال ما صدر رسميًا عن المرشد علي خامنئي والرئيس إبراهيم رئيسي أن سوريا هي حصّةٌ استراتيجية إيرانية ثابتة، فيما حصص بقية الأطراف، بما فيها روسيا، عَرَضية زائلة.

تتحرّك طهران وفق معطى دولي جديد أثاره عقد الدورة السادسة لمؤتمر دعم مستقبل سوريا والمنطقة، الذي نظّمه الاتحاد الأوروبي في بروكسِل (8-9 من الشهر الجاري) من دون دعوة روسيا هذه المرة. يتكامل هذا التطور مع الموقف الغربي من موسكو بشأن أوكرانيا طبعًا. لكن هذا التفصيل ليس عَرَضيًا في حكاية التدخّل الروسي العسكري المباشر منذ 30 أيلول (سبتمبر) 2015.

جاءَ تدخّلُ موسكو آنذاك بناءً على مُعطَياتٍ باتت ثابتة مُسَلَّمٍ بحقيقتها.

المعطى الأول، هو زيارة قام بها الجنرال قاسم سليماني، قائد “فيلق القدس” التابع لـ “الحرس الثوري” الإيراني، في آب (أغسطس) 2015 إلى روسيا حاملًا خرائط وأدلّة ميدانية وتقديرات مخابراتية حول قرب انهيار النظام في دمشق. طلب سليماني في تلك الزيارة تدخّلًا روسيًا عاجلًا يُنقِذُ الوضعَ العسكري من الانهيار على الرُغمِ من زجّ إيران بميليشياتها المُستَدعاة من باكستان وأفغانستان والعراق ولبنان في المعركة.

الثاني، أن بحثَ التدخّل الروسي جرى بين القيادة الروسية بشخص الرئيس فلاديمير بوتين ورئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك بنيامين نتنياهو. أنتجت المداولات تفاهمات روسية-إسرائيلية، ما زال معمولًا بها حتى الآن، تُبيحُ لإسرائيل ضربَ أيِّ أهداف داخل سوريا تعتبرها إسرائيل تُشكّلُ خطرًا على أمنها.

الثالث، أن اجتماعًا عُقِدَ بين بوتين والرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما على هامش المؤتمر السنوي للأمم المتحدة في نيويورك في 28 أيلول (سبتمبر) 2015 أدى بعد يومين فقط إلى بدء العمليات العسكرية الروسية في سوريا. فُهِمَ من هذا التطور غضّ طرف أميركي أنتجه اللقاء وصل إلى حدّ التواطؤ الكامل حين منعت واشنطن أيّ دعمٍ عسكري نوعي دولي أو إقليمي للمعارضة السورية بإمكانه عرقلة الجهد الروسي في سوريا.

بمعنى آخر، فإن المجتمع الدولي وفّر رعايةً غير مُعلَنة للتدخّل الروسي، ونصّب موسكو راعيةً للحلّين العسكري والسياسي في البلد. في المقابل بدا أن الغرب غير معنيّ بالتدخّل في الشأن السوري، والولايات المتحدة مُستقيلة في هذا البلد تُعرِبُ في عهد أوباما، وخصوصًا في عهد دونالد ترامب، عن خططٍ للانسحاب منه كليًا.

قَرَأت طهران خلال السنوات الأخيرة جيدًا هذا الواقع الدولي الذي عزّزَ مَوقعَ روسيا في سوريا. لكنها تستنتج هذه الأيام، بسبب الموقف الغربي الجماعي غير المسبوق ضد روسيا المُتعلِّق بأوكرانيا، وبسبب عدم دعوة موسكو لحضور اجتماعات بروكسِل حول سوريا، أن “الرعاية” الدولية لا سيما الأميركية-الأوروبية للوصاية الروسية على سوريا قد عُلِّقَت وربما سُحِبت نهائيًا، وأن تراجُعَ الأولوية السورية داخل أجندات بوتين الراهنة تُوَفِّرُ مُناسبةً لإعادةِ توسيع النفوذ الإيراني الذي فرضت موسكو عليه كثيرًا من الظلال في السنوات الأخيرة.

تُعيدُ إيران التأكيد في مناسبةٍ ومن دون مناسبةٍ بأنها ضدّ الحرب في أوكرانيا في موقفٍ يبتعدُ من قراءة موسكو للحرب ويقترب موضوعيًا من القراءة الغربية لها. هذا لا يعني أن إيران تُقدِّمُ أوراقَ اعتمادٍ لدى المجتمع الدولي لمنحها “الوصاية” بديلًا من صاحبها الروسي، لكنها، ولمناسبة استفاقة موسكو ومن خارج أي سياق على إعادة تفعيل آلية آستانا الثلاثية الروسية-التركية-الإيرانية، تقول لأطرافِ تلك الآلية كما للدوائر العربية أنها صاحبة اليد الطولى الأولى في شأن سوريا وأيُّ خططٍ تتعلق بمسارات هذا البلد ومصيره.

قد ترى إيران أن الأداء العسكري البرّي المُتَعثّر للقوات الروسية في أوكرانيا يُعيدُ الاعتبار للقوى البرية التابعة لإيران التي زجّتها في حرب سوريا دفاعًا عن نظام الأسد، فيما كثافة النيران الجوية الروسية فوق سوريا كانت تُبهرُ الحلفاء قبل الخصوم وتحجب حقيقة واقع القوة العسكرية الروسية.

وقد ترى طهران في قيام تركيا بإغلاق المجال الجوي أمام جميع الطائرات الروسية المدنية والعسكرية التي تقل جنودًا من روسيا إلى سوريا مؤشّرًا آخر على تحوّلٍ ما في موقع روسيا الحالي في سوريا. وحين أعلن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو هذا الإجراء قال إن الأمر يجري بالتشاور مع موسكو. وفي هذا التفصيل إقرارٌ روسي بمصالح تركيا، بما يستدعي تنبيهًا إيرانيًا لتركيا بأحقّية طهران في النفوذ والغنائم في سوريا. وربما هذا ما أيقظ “صراع السدود” المائية هذه الأيام بين البلدين.

لا يهمّ ما صدر لمناسبة زيارة الأسد طهران من بياناتٍ سورية وإيرانية تتحدّث عن ثمارِ تحالفِ طهران ودمشق في “ردع الصهيونية” و”إضعاف الولايات المتحدة”، ولا يهمّ ما كشفه المرشد علي خامنئي من أن “احترام ومكانة سوريا باتا أعلى” مما كانا عليه قبل العام 2011. المهمّ أن صور لقاءات الأسد مع المرشد والرئيس وسيناريو الزيارة غير المُعلَنة مُسبَقًا والسريعة التي استغرقت ساعات، تُفصِحُ عمّا توَدُّ طهران بعثه من رسائل حول قوة نفوذها في “استدعاء” الأسد تمامًا كما يفعل الآخرون حين يزورهم بسرية وعلى عجل.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى