إحتواءُ إيران… بالصبر!
مايكل يونغ*
فيما كانت الولايات المتحدة والدول العربية وإسرائيل تُشاهِدُ توسّع القوة الإيرانية في الشرق الأوسط، كان هناك في كثير من الأحيان مَيلٌ للافتراض بأن حدثًا واحدًا ساحقًا – عمل عسكري مُشِلّ ومُدَمّر، أو عقوبات قاسية تؤدي إلى انهيار النظام في طهران، أو بدلًا من ذلك مفاوضات حاسمة- يُمكنه حلّ “المشكلة الإيرانية”. غالبًا ما حلّ نهج “الرصاصة الفضية” هذا، الساعي إلى حلٍّ سهلٍ لمشكلةٍ مُعقّدة، محل السياسة في التعامل مع النفوذ الإقليمي الإيراني.
يُعتَبَرُ الجدلُ الحالي في الولايات المتحدة حول إحياء الاتفاق النووي (خطة العمل الشاملة المُشتركة) مع إيران مثالًا على ذلك. أولئك الذين يؤيّدون العودة إلى الاتفاق ألمحوا إلى أنه سيؤدّي إلى عهدٍ جديد من الاستقرار في المنطقة، لأنها ستمنع سباق التسلح. ولكن هؤلاء الأشخاص أنفسهم لم يهتموا إلى حدٍّ كبير بتداعيات الصفقة على حلفاء إيران. من خلال السماح لها بتوليد مليارات الدولارات، سيسمح الاقتصاد الإيراني المُنتَعِش لطهران تمويلَ مجموعةٍ مُتنوّعة من الميليشيات الموالية لها في جميع أنحاء المنطقة، والتي يعتبرها العديد من الدول العربية تهديدًا.
مُعارضو الصفقة ليسوا أفضل. لقد أشادوا بشدة بدونالد ترامب لانسحابه من الاتفاق النووي، لكنهم التزموا الصمت عندما استغلّت إيران ذلك لتوسيع تخصيب اليورانيوم. الشيء الوحيد الذي يقترحونه هو عمل عسكري أميركي أو إسرائيلي مُدمّر ضد إيران لمنعها من بناء أسلحة نووية، أو عقوبات قاسية للغاية. المشكلة هي أنه لن تقوم أي إدارة بإثارةِ حربٍ جديدة في الشرق الأوسط، ومن غير المُرجّح أن تفعل إسرائيل ذلك بدون دعم واشنطن.
بالنسبة إلى العقوبات، واصلت إيران تصدير النفط على الرغم من بذل إدارة ترامب قصارى جهدها لمنع ذلك بدءًا من تشرين الثاني (نوفمبر) 2018، مع ارتفاع الكميات المُصدَّرة بعد صيف 2020. علاوة على ذلك، كما لاحظ الباحث “إسفنديار باتمانجليج “في مقال لمجلة “فورين بوليسي” في تشرين الأول (أكتوبر) 2018، فإن العقوبات عزّزت فيلق الحرس الثوري الإسلامي. إن الخيال الحقيقي للخصوم هو تغيير النظام في طهران، لكنهم فشلوا في تفسير كيف يكون ذلك ممكنًا عندما يربح الحرس البريتوري للقيادة الدينية من العقوبات.
تَعكسُ المواقف على كلا الجانبين نهج “الرصاصة الفضية”، مُظهِرَةً قدرة ملحوظة من قبل كل جانب لتجاهل التفاصيل التي تُقوِّض حججهما. والأقل أهمية كان اعتماد استراتيجية أكثر صبرًا لاستغلال انفتاحاتٍ سياسية أو اقتصادية في المنطقة لمقاومة النفوذ الإيراني. لن يؤدي هذا الأمر إلى تغييرٍ جذري، ولن يقوم على افتراضٍ غير واقعي بأن إيران يمكن أن تختفي. ولكن من خلال السعي إلى تعزيز حصص الدول العربية في الأماكن التي تُهيمن عليها إيران اليوم، فمن المرجح أن تخلق أنظمة أكثر مرونة للحد من نفوذ طهران.
لبنان مثالٌ جيد على الفقر والإمكانات الكامنة في مثل هذا النهج. يبدو أن العديد من دول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، قد قرر أن لبنان هو أرضٌ محتلّة من إيران، وبالتالي لا فائدة من إضاعة الوقت في شؤونه. تَخيّل لو أن النظام الإيراني قد تبنّى موقفًا مُماثلًا بالاستقالة والانسحاب في أوائل الثمانينات الفائتة عندما كان لبنان في ظلِّ حكومةٍ لبنانية مُوالية لأميركا، وانتشرت القوات العسكرية الغربية في بيروت وحولها. لم تفعل، و”حزب الله” اليوم، يمكن القول، هو القوة العسكرية الرئيسة في البلاد.
التراخي ليس استراتيجية. عندما يكون المجتمع السنّي في لبنان هو الأكبر في البلاد، ويبحث عن دعمٍ إقليمي، فليس من المنطقي التخلّي عن تلك البطاقة القيّمة. لبنان ليس أسوأ حالًا بسبب إنسحاب سعد الحريري، لكن ما هي المزايا السياسية التي اكتسبها السعوديون من الإطاحة به والفشل في ملء الفراغ القيادي على رأس طائفته؟ تذكّر أن اغتيال رفيق الحريري في العام 2005 كان مُصَمَّمًا جُزئيًّا لخلقِ مثل هذا الفراغ، وأن السعوديين هم مَن سارعوا إلى تنصيب نجله سعد كقائدٍ جديد لتجنّب حدوث ذلك.
حاولت دولٌ عربية أخرى التعامل مع لبنان بشكلٍ مختلف. في العام الفائت، في خضم أزمة كهرباء خطيرة، دفعت مصر والأردن بخطةٍ لتزويد البلاد بالغاز الطبيعي لتشغيل محطة توليد الكهرباء في دير عمار بالقرب من طرابلس. كان منطقهما أنه إذا لم تساعد الدول العربية لبنان في وقت الحاجة، فإن إيران ستستغل ذلك لتوسيع نفوذها في البلاد. المُفارقة هي أن مصر والأردن كانا أكثر تركيزًا على استخدام صفقة الغاز لإعادة سوريا إلى الحظيرة العربية، على أمل استخدام نفوذهما في دمشق لتضييق هامش المناورة الإيراني.
تبنّى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منطقًا مُماثلًا في العام 2020، بعد الانفجار في مرفإِ بيروت. لقد فشلت محاولته في أن يكون الأب الروحي لاتفاق لبناني-لبناني على حكومة جديدة تقوم بالإصلاح، لكنه نجح على جبهة أخرى. إن فرنسا الآن هي الراعي الرئيس للبنان في الاتحاد الأوروبي، وفي حين أن ذلك قد يكون مهمة غير مُجدية، إلّا أنها يمكن أن تعود بالفوائد أيضًا. أصبح الفرنسيون الآن محاورين بحسن نية بشأن الاقتصاد اللبناني، وهذا الأمر يُمثّل نفوذًا كبيرًا في وقت الانهيار الاقتصادي. لقد فازوا أيضًا بمشاريع كبرى، حيث مُنِحت شركة “CMA-CGM” الفرنسية أخيرًا امتياز تشغيل محطة حاويات مرفإ بيروت.
قد لا يبدو ذلك كثيرًا، وقد تكون هذه الفوائد في حد ذاتها محدودة. لكن السياسة تدور حول التواجد على الطاولة، والدول التي تخلق مساحات عمل في لبنان هي تلك التي ستكون قادرة على بناء قاعدة جماهيرية في البلاد. إذا لعبت الدول العربية دورًا أكبر في المجتمع السنّي، على سبيل المثال، فقد تكون قريبًا في وضعٍ يُمَكِّنها من تسمية حلفاء محليين لمناصب في الحكومة والبرلمان، مما يخلق شرخًا يسمح لها بتوسيع دورها السياسي. عندما يرى القادة الإيرانيون أن لبنان ليس تحت هيمنتهم الحصرية، فسوف يكونوا مُجبرين على تقديم تنازلات.
سوف يرتعد دعاة السيادة من مثل هذا الاقتراح. لكنهم في نهجهم يجعلون الكمال عدوًّا للخير. لبنان ليس دولة ذات سيادة كاملة وقد لجأ أولئك الذين يحكمون البلاد منذ فترة طويلة إلى قوى أجنبية لتحقيق مكاسب محلية. في رغبتهم بلبنانٍ مثالي، يرفض دعاة السيادة رؤية أن النظام الطائفي قد حدّ من وصول “حزب الله” إلى المجتمعات الأخرى. هناك مجالٌ للاستفادة من قيوده في هذا الصدد وفرض التعددية في ما يتعلق بالتأثير الإقليمي.
- مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @BeirutCalling
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.