500 سنة بين الـمَرأَة والـمِرآة (2 من 2)

سوفونيسْبا أَنغيسُّولا

هنري زغيب*

 في الجزء الأَول من هذا المقال (“أَسواق العرب” الجمعة 11 شباط/فبراير الجاري) ذكرتُ خمسًا من رسامات عالَميات وَضَعْن رسمًا ذاتيًّا لوُجوههنّ في أَوضاع ووضعيات مختلفة. في هذا الجزء الثاني والأَخير أَذكُرُ ستًّا أُخريات منهنَّ اشتُهرْنَ بلَوحاتهنَّ الذاتية.

الإِيطالية سوفونيْسْبا أَنغيسُّولا (1532 – 1625)

أَمضت حياتها في الرسم منذ سنواتها الباكرة، لكنَّها لم تَضَع لوحتها الذاتية (1610) إِلَّا في أَواخر حياتها، ظهرت فيها امرأَةً في ترهُّل الشيخوخة. وكانت لوحة واقعية بما رسمَتْ فيها من تجاعيد وتغضُّنات وشعر أَشْيَب وثوب أَسود، ولكنْ… بعينين ثاقبتين من ذكاء. تخصَّصت برسم الوجوه، وسنة 1559 دخلَت قصر فيليب الثاني ملك إِسپانيا، درَّست زوجتَه الرسم، ووضعت عددًا من اللوحات للملك والملكة وبعض كبار المعاونين، واعتمَدَها الملك رسامة القصر الرسمية حتى 1573.

هي من أُولى الرسامات اللواتي بلَغْنَ على حياتهنَّ شهرة واسعة في صدارة المشهد الفني الأُوروپــي عصرئِذٍ. وها هي اليوم مغمورة مع أَنها بارعة مبدعة، وفي طليعة أَعلام الفن في أُوروپا نهاية القرن السادس عشر ومطالع السابع عشر، وهي تلميذة العبقري ميكالنجلو في الرسم.

فْريدا كالو

المكسيكية فريدا كالو (1907 – 1954)

اشتهرت خصوصًا برسمها الذاتي وجهَها وقامتَها في وضعيات مختلفة، بعضها جريْءٌ حتى العُري، وبعضها الآخر بأَلوان باهرة وساطعة، وأَوضاع هي غالبًا في حالة حزن ويأْس وأحيانًا ببعض الفرَح. أُصيبت بالشلَل منذ كانت في السادسة، وأَصابها حادث خطير في الثامنة عشرة حين اصطدمَت بالقطار حافلةٌ كانت فيها عائدة إِلى بيتها، ما سبَّب لها كُسُورًا في أَطرافها لم تبارحها طوال حياتها حتى وفاتها في السابعة والأَربعين، بعد خضوعها لنحو ثلاثين عملية جراحية جعلت لها نوبات متتالية من الأَلم. رسمَت عددًا كبيرًا من لوحاتها وهي نائمة في سريرها، فوقها مرآة كي ترسم وضْعها مقْعدة في السرير. بلغت أَعمالها نحو 143 لوحة، منها 55 لوحة ذاتية في حالات مختلفة تُظهر آلامها النفسية والجسدية، أَحيانًا وحدَها وأَحيانًا مع حيوانات مختلفة أَو مع بعض أَفراد أُسرتها. وفي معظم لوحاتها الطابعُ المكسيكيُّ بالملابس والحليّ وَوُجوه مجهولة ذات ملامح محلية.

هِلِن شيربِك

الفنلندية هِلِن شيربِك (1862 – 1946)

بدأَت باكرًا بدراسة الرسم، حتى إِذا بلغَت الصبا راحت تدَرِّسه حتى سنة 1902 حين مرضَت فاعتزلَت الحياة الاجتماعية، وانصرفَت إِلى الرسم في بيئة ضيِّقة مقتضبة ووضْع عامٍّ قلِقٍ في البلاد. اشتهرت برسمها الذاتي المتكرِّر نحو 30 مرة طيلة حياتها، منذ هي شابة حتى قبيل وفاتها في الرابعة والثمانين. كانت حياتها مهَشَّمَةً بالحرب. هربَت من الهجوم السوڤياتي على فنلندا سنة 1939، ومنذئذٍ أَخذت جميع لوحاتها الذاتية تتشِّحُ بالخوف على مستقبل بلادها وسْط عواصف الأَحداث الدامية. ومع تدهور صحتها انعزلت في بيت للراحة وأَخذت ترسم الأَقربين حولها حتى انطفأَت يائسَةً من شدة الأَلم والوحدة.

لُوْيِــيْــس مايلو جونز

الأميركية لُوْيِــيْــس مايلو جونز (1905 – 1998)

كان لها من بشَرتها السمراء قلقٌ دائم وسْط مجتمع أَميركي غارق في التمييز العنصري. لكنها واجهت قدَرها بصعوبة ومرارة، وتحدَّت ممنوعات بيئتها فراحت ترسم مناظر مما تراه حولها. وبعدما فازت لوحتها “أَكشاك هندية في ماساشوستس” (1940) بجائزة متحف كوركوران السنوي، بدأَ اسمُها ينتشر، مع أَن المتحف كان حرَّم اشتراك الفنانين الأَميركيين من أَصل أَفريقي في المسابقات. لكنَّ لجنة التحكيم لم تستطع تجاهُل تلك اللوحة، وكان بعد سنوات عدة أَن تقدَّمت منها إِدارة المتحف بالاعتذار. وضعت لوحتها الذاتية سنة 1940. وبلغَت من حيويتها الفنية أَن ظلت ترسم حتى الأَيام الأَخيرة من وفاتها في واشنطن عن 92 سنة. وها لوحاتها اليوم منتشرة في معظم متاحف الولايات المتحدة.

بولا مِدِرسُون بِكِر

الأَلمانية پولا مودِرْسُون بِكِر (1876 – 1907)

وضعت لوحتَها الذاتية “في الذكرى السادسة لزواجي” في پاريس (1906) لكن حمْلها في اللوحة لم يكن هو القصد. ما أَرادت من رسمها هكذا، وهي في الثلاثين، لم يكن إِظهار جنين في أَحشائها بل إِظهار قدرتها الفنية على الإِيهام بالحمْل. من هنا أَنها رائدة الفن التعبيري في عصرها. كانت منطلِقة بزخْم قوي في عملها التشكيلي لكنها انقصفَت بعد لوحتها تلك بأَقلَّ من سنة واحدة حين صعقَتْها سكتة قلبية مفاجئة بعد 19 يومًا من ولادة ابنتها. وهي أَول رسامة تضع لوحتها الذاتية عارية، وكانت في مجمل أَعمالها بليغة التعبير عن حالاتها النفسية، حتى أَن النقد اعتبرَها رائدة التيار التشكيليّ الحديث في أَلمانيا.

الأَميركية آليس نيل (1900 – 1984)

لم تضع لوحتَها الذاتية إِلَّا وهي في الثمانين. عملَت عليها طيلة خمس سنوات، معتبرة أَنها وضعتْها تحدِّيًا كلَّ ما هو تقليديٌّ ومأْلوف، ومنه ما يصوِّره البعض عن رخاوة العمر في الشيخوخة. لذا تعمَّدَت في لوحاتها التعبيرية الفائضة في واقعيتها أَن ترسم ناسًا يهمِلُهم المجتمع الأَميركي، جعلتْهم في أَوضاع مؤْلِمة من قهر وإِهمال، فكانت بذلك فنانةً ملتزمة اجتماعيًّا وإنسانيًّا، واشتُهرت معظم لوحاتها بملامح قاسيةٍ خاصة بها خطوطًا وأَلوانًا، وبكشف واضح للنفسية والانفعال في وجوه أَشخاصها. كانت لوحاتها ذاتَ بُعد سيكولوجي لافت، والتزام بقضية المرأَة وحضورها البارز في جميع الطبقات الاجتماعية. من هنا اعتبارها “بين أَبرز أَعلام رسم الوجوه في القرن العشرين”، كما كتبَت عنها باري ووكر مسؤُولة الفن الحديث والمعاصر لدى متحف الفنون الجميلة في هيوستن/تكساس حين أَقامت معرضًا استعاديًّا لأَبرز لوحاتها سنة 2010.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى