حلَّاق بيكاسو صاحب متحف

من الحلاقة إِلى الصداقة

هنري زغيب*

25 سنة في المنفى، يقصُّ له شعره ويحلق له ذقنه، ولكن… طيلة 25 سنة وهو يَجمَع منه رسومًا ولوحات وحرفيَّاتٍ موقَّعَة.

تلك قصةُ الشاب الإسباني يوجينيو آرياس (15تشرين الثاني/نوفمبر 1909- 28 نيسان/أَبريل 2008): بدأَ حلَّاق بيكاسو (1881 – 1973) ثم صار صديقه.

من أَجير حلَّاق إِلى حلَّاق محترف

شائكةٌ سيرته: وُلِدَ في قرية بْوِيْتْراغو دِلْ لُوزُويا (شماليَّ مدريد، مقاطعة مَلَقة) لأُسرة فقيرة، من والد خيَّاط ووالدة راعية ريفية، وغادر المدرسة لضرورات معيشية وهو في الحادية عشْرةَ، ولَدًا أُمِّيًّا راح يعمل أَجيرًا لدى عمه الحلَّاق. كان ذكيًّا نهمًا إِلى المعرفة والتثَقُّف وتعلَّم من عمِّه مهنة الحلاقة. وحين توفي عمُّه كان تمكَّن من المهنة فاستلم المحل وجعلَ في زاوية منه مكتبة ينهل منها الزبائن قراءاتٍ في انتظار دورهم تحت مقص يوجينيو الذي دفعه حبُّه المسرحَ أَن ينضمَّ إِلى فرقة محلية يديرها مدرِّب محلي في البلدة.

مع ازدياد الضغط في حكْم فرنكو الدِكتاتوري، وسقوط الجمهورية سنة 1939 وهرب الكثيرين من الإِسبان، غادر يوجينيو إِلى فرنسا ملتحقًا بشباب المقاومة، وظلَّ على حنين دائم إِلى قريته الإِسبانية الأُمّ.

لوحة خزفية من بيكاسو إِلى يوجينيو

لقاء في المنفى

خلال اجتماع في تولوز سنة 1945 لتكريم الإِسبان المنفيين المقاومين مناهضي النازية، واحتفاءً بالذكرى الخمسين لولادة القائدة الجمهورية المقاوِمة دولوريس إِيبارُوري، كان بين الحضور بابلو بيكاسو فعرَّفته دولوريس بالمقاوم الآخَر يوجينيو. وما عاد الاثنان الْتَقَيَا إِلَّا بعد ثلاث سنوات، حين استقرَّ يوجينيو سنة 1948 في بلدة ڤالوريس (جنوبي فرنسا، قرب مدينة نيس)، وكان لبيكاسو بيتٌ فيها إِذ كان يأْخذ الخزف من محترف مادورا للخزف في البلدة. من يومها بدأَت بينهما علاقة صداقة قائمة على ثلاث ركائز: الشغف بإِسبانيا، كره فرنكو، مشاهدة حفلات مصارعة الثيران. بدايةً، أَخذ بيكاسو يتردَّد على محل يوجينيو، وحين توطدت بينهما الصداقة، طلب بيكاسو من حلَّاقه أَن يقصده مرة في الشهر إِلى أَحد بيوته الموزعة بين فالوريس وكانّْ وموجين. وأَكثر: أَهداه سيارة كي يسهِّل عليه المجيء فلا يعتذر بسبب تعذُّر المواصلات. ومع توطُّد الصداقة أَكثر بينهما، أخذ بيكاسو يلعب معه الورق، ويصحبه إِلى الحانات الليلية، ويحضران معًا حفلات مصارعة الثيران.

ومنذ شاع اسمه “حلَّاق بيكاسو” أَخذ يوجينيو يَكْسب لمحله ومهنته زبائنَ جُدُدًا كانوا يقصدون البلدة ليجتمعوا بالفنان الشهير.

كتاب “متحف بيكاسو”، وعلى غلافه: “مجموعة يوجينيو آرياس”

بيكاسو إِشبين العرس

مع توافُق الاثنَين سياسيًّا حول مقاومة الحكْم الدِكتاتوري في إِسبانياهُمَا، نادرًا ما كانا يتحدثان في السياسة، مع أَن بيكاسو كان مُهتمًّا بمواطنيه المنفيين ويساعد منهم مَن يطلب إِعانته. وبلغ من يوجينيو أَن كان يُسمّي بيكاسو “والدي الثاني، يعامِلُني كابْنه”. وكانت عائلة يوجينيو، تحت الحكْم الدِكتاتوري، عجزَت عن تحصيل جواز سفر، فلم تستطع أَن تزورَه في فرنسا. لذا، يوم تزوَّج يوجينيو سنة 1950 من رفيقته في النضال والمقاومة سيمونا فْرَنْكْوال، كان بيكاسو إِشبينَه في العرس. وبلغ من وفاء الحلَّاق لصديقه الفنان أَنْ يومَ وفاة بيكاسو سنة 1973 لفَّه يوجينيو بوشاح إِسباني أَرسلَتْه له أُمه، وسهر على الجثمان طوال الليل.

المتحف في الطابق الأَرضي من القصر البلدي

رفض إِغراءات البيع

بدأَ يوجينيو يعرض أَعمال بيكاسو أَولًا في محله، رافضًا عروضًا مغْرية جدًّا من أَلمان ويابانيين هواة الفن لشراء المجموعة أَو بعضٍ منها. وحين مات الدِكتاتور فرنكو سنة 1975 وعادت الديمقراطية إِلى إِسبانيا، زار يوجينيو بلدتَه الأُمّ بْوِيْتْراغو سنة 1982 ومعه كلُّ مجموعته الموقَّعَة له من بيكاسو بين 1948 و1972: 75 عملًا: رسوم بالقلم أَو بالريشة، لوحات، فخاريات، تخطيطات، خزفيات، صحون خزفية خاصة كان يصنعها بيكاسو لمحل يوجينيو، ملْصقات، ليتوغرافيات، كتُب، علبة أَدوات الحلاقة الخاصة بيوجينيو وكان يستعملها لقص الشعر وحلاقة بيكاسو، مقص السيكار الخاص ببيكاسو، صوَر فوتوغرافية معه، تمثال نصفي لبيكاسو، وقدَّمها جميعها إلى المجلس البلدي طالبًا أَن يجعل منها متحفًا. وجهَّزَت البلدية كامل الطابق الأَرضي في قصرها البلَدي، ورتبَت في غُرَفه الثماني كاملَ  الأَعمال وعلَّقت الرسوم واللوحات، وافتتحت المتحف للجمهور سنة 1985، وما زال حتى اليوم محطة رئيسَة لزوّار متاحف بيكاسو المتعددة في إِسبانيا.

الوصية الأَخيرة

قبيل وفاة يوجينيو (2008) عن 99 سنة في فالوريس، كانت وصيتُه الأَخيرة أَلَّا يكون متحف بيكاسو في بْوِيْتْراغو مجرَّد مكان جامدٍ للعرض بل أَن يتحول خليَّة ثقافية متحركة وناشطة.

وهكذا كان: منذ 2008 أَخذ المتحف ينَظِّم سنويًّا أَنشطة ثقافية ومعارض دورية حول بيكاسو وسيرته مسيرته، اشتُهرت منها  أُمسية موسيقية على البيانو: “عصافير بيكاسو”، وكونشرتُوَات لأَصدقاء بيكاسو ومعاصريه: موريس رافيل (1875-1937) كلود دوبوسي (1862-1918) وسواهما، ومن آخَرين أَقلَّ شهرةً أَلَّفوا مقطوعات موسيقية مهداة إلى بيكاسو.

هي هذه في جميع العصور حكايةُ الخالدين، يدخلون التاريخ بأَعمالهم، وقد يَدخلُه معهم من يكون على حياتهم ذا وفاءٍ أَو ذا صداقة، ولا يتنكَّر للصداقةِ الخالدون. 

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى