بعد 720 سنة: هذه “الموناليزا” الغامضة… ما سرُّها ؟؟ (1 من 2)

“الموناليزا” – الابتسامة اللُغْز

هنري زغيب*

من قَدَر الأَعمال الخالدة أَن تتجاوزَ حدودَ مكانها وفضاءَ ولادتها فتُواصلُ مسيرتها في الزمان خالدةً تُثير تساؤُلات دائمة كل فترة، فلا يكونُ جوابٌ نهائيٌّ ولا يكون للأَبحاث عنها انتهاء.

هذا ما يحصل حتى اليوم عن لوحة “الموناليزا” (1503) بعد 720 سنة على رسمها بريشة المبدع الخالد ليوناردو دافنتشي (1452-1519).

ما قصة هذه اللوحة؟ وما سرُّ خلودها حتى اليوم؟

ليوناردو… هل كان عاشقَ ليزا؟

من هي “الموناليزا”؟

معروفة بــ”الموناليزا”، ولها اسم آخَر: “لا جُوكُوندا”. يُجْمع النُقَّاد ومؤَرخو الفنون على أَنها “أَشهر لوحة في العالَم”، وأَغلى بوليصة تأْمين في التاريخ لدى خروجها من اللوفر في عرض مُوَقَّتٍ خاص. من هنا تكريسُ غرفة خاصة لها في اللوفر، ووضعها في حجرة زجاجية لا يخترقها الرصاص، قدَّمَتْها حكومة اليابان بعد استعارتها سنة 1974 لعرضها في “متحف طوكيو الوطني” واستقطابها عامئذٍ أَكثر من مليونَي زائر تقاطروا من اليابان ودول أُخرى.

إِنها لوحةٌ زيتية مرسومةٌ على لوح خشب بقياس 77×53 سنتم. هي اليوم مُلْكُ الدولة الفرنسية ومعلَّقَةٌ عند حيِّز مستقلّ في متحف اللوفر. أَما المرأَة في اللوحة فهي الفلورنسية “ليزا” (1479-1542) زوجة الفلورنسي الإِيطالي تاجر الحرير والقماش فرنشسكو دِلْ جيوكوندو (من هنا اسمها “لاجوكوندا”) تَزَوَّجَها وهي ابنةُ خمس عشرة. وفي النصوص أَنَّ التاجر هو الذي كلَّف ليوناردو برسم زوجته في هذه اللوحة، والمفارقة أَنه لم يستلم اللوحة فبقيَت مع ليوناردو وحمَلَها معه إِلى باريس حين استدعاه فرنسوا الأَول ليكون رسام البلاط في قصره.  وثمة من يقول إنه وضع للَّوحة نسختَين أَعطى الأُولى للتاجر واحتفظ بالأُخرى لديه.

تقنية ليوناردو

بدأ نقاد الفن الفرنسيون يتخذون هذه اللوحة نموذجًا لتقنية الرسم في منتصف القرن التاسع عشر. وراحوا ينَظِّرون على أَنَّ تاجر الحرير أَراد تخليد زوجته التي يحبُّها جدًّا بالطلب إِلى ليوناردو رسمها. وذهب البعض أَبعد، فرأَى أَنْ قد يكون ليوناردو عشِقَ ليزا فرسم عينَيها الجميلتين وشفتَيها المبتسمتَين بهذه الدقة المتأَنية، تاركًا فيها لغزًا ما زال سرًّا حتى اليوم.

رسم دافنتشي هذه اللوحة بأُسلوب الـ”فوماتو” (تقْنية تمازج الأَلوان ضبابيًّا من دون حدود أَو فوارق بينها، تعتمد الضربات الخفيفة للريشة مع ظلال ناعمة، وبراعة في تَماوُج النور والظل، وفي تمرُّس ليوناردو بتفاصيل الهيكل العظمي تحت البَشَرَة)، وجعلها في ثوب فلورنسي الزيّ، جالسةً بمنديل أَسود شفاف على مقعد خاص وسط طبيعة ذات خلفية جبلية. وجعل على شفتيها لُغز ابتسامة لا يزال تعبيرُها حتى اليوم يُحيِّر النقاد والمؤَرخين بين أَن تكون بسمة رضا أَو بسمة حُزن مقنَّع. وما اعتمده ليوناردو تقنيًّا لم يكن رائجًا في عصره إِذ كان السائد عصرئذٍ في التقليد التشكيلي الفلورنسي الاكتفاء بالوجه في ملامحه العامة فقط. لذا اعتمد ليوناردو تقْنية “الفوماتو” مدقِّقًا في تفاصيل صغيرة من الملامح التفصيلية مما قد لا يرى بالعين المجردة، حتى المنديل تكاد شفافيته أَلَّا تُرى، ما ينسحب أَيضًا على دقته في وضع طبقات لونية عدة فوق بعضها البعض على شعرها والمنديل على رأْسها كي يبلغ تلك الشفافية. وهذا اللغز جزء كبير من شهرة هذه اللوحة عبر العصور. ولعلَّ هذا ما يجعلها أَغلى لوحة في تاريخ الفن التشكيلي، لذا لم تُعرَض يومًا في مزاد علني، لأَن الحكومة الفرنسية أَصدرت قانونًا صارمًا يحرِّمُ بيع اللوحة ويحرِّم نقْلَها من اللوفر، إِلَّا في ظروف خاصة ومبرَّرة دوليًّا.

اللوحة تعود إِلى اللوفر بعد استرجاعها من السرقة

نابوليون وضعها في غرفة نومه

من عناصر شهرتها أَنها تدل بوضوح على براعة ليوناردو في رسم الجسد البشري بواقعية طبيعية مذهلة كأَنها صورة فوتوغرافية، وأَنها تكاد تَنطق حين يتسمَّر النظر طويلًا إِليها. وهذا بعض شهرتها وإِقبال الزوار خصيصًا عليها لدى غرفتها الخاصة في اللوفر، وما يفسِّر انتشار صوَرها الموزَّعة في جميع أَنحاء العالم وعلى جميع المواقع الإِلكترونية وفي سائر المراجع الثقافية من أَي لغة كانت.

من عناصر شهرتها كذلك: كونها اليوم أَبرز نموذج فني لعصر النهضة الإيطالية، وتعلُّق الناس بها عاطفيًّا، وبينهم نابوليون بونابارت بشكل خاص، وقيل إِنه أَبقاها أَربع سنوات معلَّقةً في غرفة نومه (قصر التويلُري). وبلغ من حبِّه إِياها أَن عشق امرأَة إِيطالية تدعى تريزا غوادانـيـي كانت على قرابة بعيدة مع ليزا جوكوندا.

روَّاد اللوفر يَزورونها عن بُعد

انتحر بسبَبِها

ومن تعدد الظاهر في تفسير ابتسامتها القوا إِنها تُخفي تلميحاتٍ ورسائل مُرمَّزَة خاصة، وكانت وحيًا للكثير من الكتَّاب والمغنين والرسامين. وعن مقال في جريدة “نيويورك بوست” أَن رسامين كثيرين كانوا مهووسين بهذه اللوحة، حتى أَن أَحدهم أَقدَم بسببها على الانتحار. كان ذلك في القرن التاسع عشر حين تَوَلَّه بها الرسام لوك ماسبيرو إِلى درجة أَنه سنة 1852 طفح به الوَلَه فانتحرَ من الطابق الرابع في الفندق الباريسي تاركًا في غرفته ورقةً كتَب عليها: “سنوات طويلة وأَنا أَعيش مع بسمتها.. لم أَعُد أَستطيع الاحتمال. فضَّلتُ أَن أَموت”.

ما العناصر الأُخرى في شهرة “الموناليزا” وسرِّها؟

هذا ما أَكشفه في الجزء الثاني من هذه الثنائية.   

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى