روسيا كانت على حقّ في الشرقِ الأوسط!

رُغم الإتهامات الأميركية المُضادة يبدو أن موسكو كانت تدعم، ولا تقوّض، المصالح الأميركية في منطقة الشرق الأوسط.

هيلاري كلينتون: المعارضة الروسية لإسقاط نظام الأسد “حقيرة”.

بقلم أناتول ليفن*

روايةٌ عامةٌ مُهيمِنة ومُنتشِرة في الولايات المتحدة ومعظم أوروبا، أُطلِقت منذ فترة طويلة، مفادها أن روسيا هي قوّة “مُنحَرِفة”، تسعى إلى قلب الوضع الراهن، وتحدّي “النظام القائم على قواعد ومبادئ”، وتعمل بشكلٍ عام “كمُفسدٍ” في الشؤون الدولية – وخصوصًا في أراضي الاتحاد السوفياتي السابق. لا شك أن هناك عنصرًا كبيرًا من الحقيقة في هذا التصوير.

ومع ذلك، في الشرق الأوسط الكبير، هناك شيءٌ غريب وخطير حول هذه الصورة للسلوك الروسي. في هذه المنطقة، على مدار العشرين عامًا الماضية، كانت الولايات المتحدة في الواقع هي التي عملت على تعطيل الوضع الراهن القائم، وقد أثبتت المعارضة الروسية لسياسات أميركا بشأن القضايا الرئيسة في وقت لاحق أنها صحيحة من الناحية الموضوعية، ليس فقط بالنسبة إلى روسيا والمنطقة ولكن أيضًا بالنسبة إلى الولايات المتحدة والغرب.

بالطبع، تم تصميم السياسات الروسية لخدمة المصالح الروسية. ومع ذلك، فإن حقيقةَ أنه اتّضح لاحقاً أنها تتوافق مع المصالح الغربية أيضًا لم تكن مجرّد مصادفة. لقد تأسّست هذه السياسات الروسية على تحليلٍ أجرته السياسة الخارجية الروسية والمؤسسة الأمنية لدول الشرق الأوسط والتي تبين أنها صحيحة في حدٍّ ذاتها – وهي أيضًا قريبة جدًا من تلك الخاصة بالعديد من المؤسسات الأميركية.

التحليلُ الروسي الضمني هو تصوّرٌ يمكن تسميته بأنه مناهضٌ للديموقراطية ولكنه يُوصَفُ بشكلٍ أكثر دقّة بأنه إحساسٌ عميقٌ بهشاشةِ الدول والخوف من الفوضى والحرب الأهلية، إلى جانب التشكّك العميق في مشاريع التغيير الثوري السريع. تعود جذور هذا الموقف إلى التجارب الروسية المُروّعة في القرن العشرين. وكما قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لصحيفة نيويورك تايمز في تشرين الأول (أكتوبر) 2003 بشأن نتائج الغزو الأميركي للعراق: “ليست هناك مفاجأة بالنسبة إلينا بشأن الوضع الذي تبلور، لأننا توقّعنا تطور الوضع هناك بالضبط كما هو يتطوّر الآن. … كيف يُمكن للمرء أن يتخيّلَ مسارًا مختلفًا للأحداث في حالةٍ يتمّ فيها تفكيك النظام؟ بالطبع، تم تدمير الدولة. كيف يُمكن أن يكون الأمرُ خلافَ ذلك؟”.

ربط بوتين هذا التدمير الذي لحق بالدولة العراقية – بحكمة شديدة، كما اتضح في ما بعد – بالزيادة الهائلة في التطرّف الإسلامي: “لم يكن نظام صدام حسين نظامًا ليبراليًا … لكنه كافح ضد الأصوليين … الآن، لم يعد هناك صدام، ونشهد على أراضي العراق تسلّل عدد كبير من أعضاء المنظمات الإرهابية المختلفة”.

بالنظر إلى ما حدث في العراق، هل يُمكن لأيّ شخصٍ أن يقول إن بوتين كان مُخطئًا في معارضة الغزو هناك؟ ألن تكون الولايات المتحدة نفسها اليوم أفضل حالًا لو قبلت في 2002-2003 النصيحة الروسية؟

جعلت التجربة السوفياتية الروس متشكّكين بشدة في المشاريع الثورية لتحويل المجتمعات الأخرى وفقًا لنموذجٍ إيديولوجي عالمي واحد – لأن هذا هو ما حاولت الشيوعية السوفياتية فعله في جميع أنحاء العالم، وبالتالي أدّى إلى تورّط روسيا في سلسلة من الكوارث المروّعة المُكلفة. وهكذا رأى الروس (بشكل صحيح) أن مشروع الولايات المتحدة في أفغانستان يُشبه من نواحٍ رئيسة الجهد السوفياتي في ثمانينات القرن الفائت، ومحكومٌ عليه بفشلٍ مُماثل.

وكما قال بوتين لصحيفة فايننشال تايمز في العام 2019 بشأن نتائج الإطاحة الغربية بدولة معمر القذافي في ليبيا: “[هل] شركاؤنا الغربيون يريدون منطقة مثل ليبيا لها المعايير الديموقراطية عينها مثل أوروبا والولايات المتحدة؟ في منطقة [الشرق الأوسط وشمال إفريقيا] هناك أنظمة ملكية فقط أو دولٌ ذات نظام مُشابه للنظام الموجود في ليبيا … من المستحيل فرض معايير ديموقراطية فرنسية أو سويسرية حالية وقابلة للحياة على سكان شمال إفريقيا الذين لم يعيشوا أبدًا في ظروف مؤسسات ديموقراطية فرنسية أو سويسرية. … كل هذا أدى إلى الصراع والخلاف بين القبائل. في الواقع، الحرب تستمر في ليبيا”.

مرة أخرى، هل أثبتت نتائج الإطاحة بالقذافي أن بوتين كان على صواب أم على خطأ؟ تستمر الحرب الأهلية بالفعل حتى يومنا هذا، وقد أدّى انهيار الدولة الليبية إلى حركة مهاجرين جماعية عبر البحر الأبيض المتوسط ​​أدت إلى زعزعة استقرار الاتحاد الأوروبي.

وصلت الخلافات الأميركية-الروسية في الشرق الأوسط إلى ذروتها مع “الربيع العربي” في العام 2011 والانتفاضات في مصر وسوريا وليبيا. وقد تَشَكَّلَ ردّ الفعل الروسي على هذه الأحداث جُزئيًا من خلال الرغبة في الدفاع عن الحلفاء السوفيات القدامى، وفي حالة سوريا، للاحتفاظ بآخر قاعدة بحرية لروسيا في البحر الأبيض المتوسط.

لكن الأهم من ذلك، كان خوف روسيا من أن تؤدي هذه الانتفاضات إلى انتصار القوى الإسلامية المتطرفة وإنشاء قواعد لإحياء الإرهاب في روسيا، الذي أودى بحياة العديد من الضحايا الروس قبل وأثناء الحرب الشيشانية الثانية. إزدادت مخاوف كل من روسيا والدول الأوروبية من تنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا بسبب العدد الكبير من المواطنين المسلمين الأوروبيين والروس الذين سافروا إلى سوريا للقتال في صفوفه ثم حاولوا العودة إلى ديارهم.

وقال بوتين أيضًا بخصوص التدخّل الروسي في الحرب الأهلية السورية: “لقد قرّرتُ أن التأثير الإيجابي لمشاركتنا النشطة في الشؤون السورية لروسيا ومصالح الاتحاد الروسي سوف يفوق بكثير عدم التدخل والمراقبة السلبية لكيفية نمو منظمة إرهابية دولية بالقرب من حدودنا. … لقد تمكّنا من الحفاظ على الدولة السورية، رُغم كل شيء، ومنعنا الفوضى على غرار ليبيا هناك”.

وصفت وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك، هيلاري كلينتون، المُعارضة الروسية للإطاحة بدولة البعث في سوريا بأنها “حقيرة”. ولكن الآن هناك شيء غريب. في مذكراته التي صدرت أخيرًا، يصف الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما “أرض الميعاد” كيف اجتمعت حكومته في كانون الثاني (يناير) 2011 لمناقشة تطوّر الثورة في مصر وما إذا كانت ستدعو إلى استقالة الديكتاتور المصري حسني مبارك، الذي انخرط في حملة قمع وحشية ضد المتظاهرين: “الأعضاء الأكبر سنًا والأعلى في فريقي –جو بايدن وهيلاري كلينتون وروبرت غايتس وليون بانيتا– نصحوا بالحذر، كلّهم عرفوا مبارك وعملوا معه لسنوات. وشدّدوا على الدور الذي لعبته حكومته منذ فترة طويلة في حفظ السلام مع إسرائيل، ومحاربة الإرهاب، والشراكة مع الولايات المتحدة في مجموعة من القضايا الإقليمية الأخرى. وبينما أقرّوا بضرورة الضغط على الزعيم المصري بشأن الإصلاح، حذّروا من أنه لا توجد طريقة لمعرفة مَن أو ما الذي قد يحلّ محلّه”.

يُمكن القول إن تكتيكات نظام البعث في الحرب الأهلية السورية كانت أكثر وحشية من أيِّ شيء نفّذه أو قام به مبارك. ثم مرة أخرى، قبل 20 عامًا، اتبعت إدارة بيل كلينتون خطى إدارة جورج بوش (الأب) من خلال دعم النظام العسكري في الجزائر في إلغاء نتائج الانتخابات الديموقراطية وفي حملته الوحشية ضد المعارضة الإسلامية. كانت حسابات الولايات المتحدة المتعلقة بالجزائر متطابقة تقريبًا مع حسابات روسيا في سوريا.

إن قولَ هذا لا يعني إدانة آل كلينتون أو المسؤولين والمُحلّلين الأميركيين الذين أعربوا عن شكوكهم بشأن ما يُسمّى بالثورات الديموقراطية في الشرق الأوسط والمخاوف من أنها قد تؤدي إلى الفوضى وانتصار الإسلاميين. كانت شكوكهم ومخاوفهم مُبرَّرة، كما أظهرت النتائج البائسة ل”الربيع العربي”. الشرق الأوسط هو منطقة سياسية صعبة، وأي قوّة خارجية تعمل هناك يجب أن تكون مُستعدّة للعمل مع بعض الأنظمة الفاسدة.

هؤلاء المسؤولون الأميركيون الذين نصحوا أوباما بعدم الإطاحة بنظام بشار الأسد في سوريا، خوفًا من أن يتولى تنظيم “داعش” زمام الأمور، كانوا أيضًا على صواب بشكل شبه مؤكد، وكذلك أولئك الذين أقنعوا اليوم إدارة بايدن بالاستمرار في العمل مع المملكة العربية السعودية. ومع ذلك، من الصعب معرفة سبب وجوب إدانة روسيا لاتباعها نهج المستشارين الأميركيين العقلاء عينه.

أخيرًا، لعبت العقوبات الروسية في النهاية (بعد تأخيرات طويلة باعتراف الجميع) دورًا مهمًا في حمل إيران على توقيع الاتفاق النووي في العام 2015. لطالما دافعت روسيا عن حلٍّ وسط أميركي مع إيران بشأن القضية النووية، ولو كانت واشنطن قبلت هذه النصيحة في 2002-2003، كان من الممكن أن تحصل على صفقةٍ أفضل بكثير من تلك التي حصلت عليها في العام 2015، ناهيك عن أيِّ شيء يمكن تحقيقه اليوم.

ومن المثير للاهتمام أن موقف روسيا من الاتفاق النووي والشراكة مع إيران في سوريا لم يُدمّر علاقة روسيا الوثيقة بإسرائيل، القائمة على روابط قوية مع الجالية اليهودية في روسيا، وكذلك على التزامٍ مُشترَك قوي بمحاربة التطرّف الإسلامي السنّي. الحكومات الإسرائيلية المُتعاقبة تخوّفت ، وما زالت، إلى حدٍّ كبير من الدور الإيراني في سوريا، لكنها أيضًا تخشى بشدة من عواقب انهيار الدولة السورية، وأقرّت بالطبيعة المحدودة والمشروطة للغاية للتعاون الروسي-الإيراني.

من جهتها أعلنت إدارة بايدن أنه أثناء مواجهتها لروسيا بشأن قضايا معينة، فإنها تريد العمل معها حيث تتلاقى المصالح الأميركية والروسية. ويشير تاريخ الشرق الأوسط خلال العشرين عامًا الماضية إلى وجود أساسٍ قوي للتعاون في هذا المجال على الأقل. ومع ذلك، فإن تطوير مثل هذا التعاون سيتطلّب من صانعي السياسة في الولايات المتحدة الاعتراف –على الأقل لأنفسهم على انفراد– بعدد المرات التي ثبت فيها أن روسيا كانت على حق، وأميركا على خطأ.

  • أناتول ليفين هو زميل كبير في معهد كوينسي لفن الحكم المسؤول ومؤلف كتاب “باكستان: بلد صعب”. كتابه الأخير “تغيّر المناخ والدولة القومية” ، ظهر في طبعة مطبوعة بغلاف ورقي محدث في أيلول (سبتمبر) 2021. يمكن متابعته عبر تويتر على: @LievenAnatol. ساعد آرتن دِرسيمونيان من معهد كوينسي لفن الحكم المسؤول في البحث في هذا المقال.
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازياً مع صدوره في “فورين بوليسي” (Foreign Policy) الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى