أكثر من إحتجاجات، لبنان يشهد اليوم ثورةً إجتماعية عميقة

لا يعني الإحتجاج على الطائفية السياسية في لبنان أن الناس قد تخلّوا عن هويتهم الطائفية. إنه يشير إلى أن اللبنانيين قرّروا الحصول على امتيازٍ أوسع للهوية الوطنية وضمان حقوقهم كمواطنين.

 

طرابلس تنتفض: عروسة الثورة كانت دائماً مُهمّشةسياسة

 

بقلم مهى يحيى*

ركّزت إحتجاجات لبنان، التي بدأت في 17 تشرين الأول (أكتوبر) الفائت، على الحاجة إلى تغيير نظام تقاسم السلطة في البلاد وعكس التدهور السريع في نوعية الحياة اليومية. ولكن هناك شيئاً أكثر عُمقاً يحدث. إننا نشهد تحوّلاً إجتماعياً، وثورة في المعايير التي يقوم عليها المجتمع اللبناني.

إن مطالب المتظاهرين بإسقاط النظام هي إدانة لسوء الإدارة السياسية والاقتصادية الكارثية للبلاد من قبل طبقتها السياسية. لقد جاء معظم قادة الميليشيات في زمن الحرب إلى السلطة بعد نهاية الحرب الأهلية في العام 1990، وانتقلوا إلى مؤسسات الدولة. وعلى الرغم من أن أحد المكوّنات الرئيسة لاتفاق الطائف، الذي ساعد على تسهيل التوصّل إلى تسوية بعد الحرب، يتمثّل في تفكيك وإلغاء نظام تقاسم السلطة الطائفي في لبنان، إلّا أن ذلك لم يُنفَّذ أبداً. وعفا قانون العفو الصادر في آب (أغسطس) 1991 عن مرتكبي جرائم الحرب، مُستنداً إلى منطق “لا غالب ولا مغلوب”.

ما تلا ذلك كان انتهاكاً عميقاً للنظام السياسي، الذي قسّم بشكل فعلي الفطيرة الوطنية بين الزعماء الطائفيين. وكانت النتيجة الصافية كارثية. اليوم، يبلغ عجز الموازنة حوالي 152 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، وتراجع صافي الإحتياطات الأجنبية بشكل كبير. وفقاً لتقرير صادر عن البنك الدولي في العام 2016، كلّفت سياسة المحسوبية لبنان حوالي 9٪ من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً. ويُعزى ذلك جزئياً إلى حقيقة أن الدولة نادراً ما تُعاقب الفساد عندما يرتبط بالنخب السياسية الطائفية. في حين أن الموظفين العموميين ورعاتهم السياسيين يحصلون مباشرة على حوالي 25 في المئة من أموال القطاع العام، فإن ما يصل إلى حوالي نصف السكان اليوم يعيش تحت خط الفقر. إن عدم المساواة متفشٍّ بشكل كبير إذ يحصل أغنى 1 في المئة من اللبنانيين على 25 في المئة من الدخل القومي. كما أن نظام الرعاية الصحية منهار حيث يفتقر 52٪ من السكان إلى التأمين الصحي المناسب. وكان هناك حوالي 50,000 طفل خارج المدرسة في العام 2016. وبينما تُكلّف مؤسسة كهرباء لبنان الوطنية البلاد 11 في المئة من عجز موازنتها العامة، فإن اللبنانيين يدفعون ضعف المعدل الإقليمي للكهرباء. إن أوجه عدم المساواة الواسعة الإنتشار في الحصول على الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم تبدو واضحة في جميع أنحاء البلاد بغض النظر عن المنطقة أو الجغرافيا.

في هذا السياق الأوسع، لا يعني الإحتجاج على الطائفية السياسية أن الناس قد تخلّوا عن هويتهم الطائفية. إنه يشير إلى أن اللبنانيين قرّروا الحصول على امتيازٍ أوسع للهوية الوطنية وضمان حقوقهم كمواطنين. جاء ذلك مع الإدراك بأن المجتمعات الطائفية لم تحمِ أو تُحافظ على كرامة أعضائها أو تضمن حقوقهم. بدلاً، سمحت لمجموعة ضيّقة من الزعماء بالإنتصار، واغتصاب التمثيل المجتمعي، ونشر عقلية الحصار بين أتباعها، وإحداث إساءة متساوية في الفرص بين جميع المجتمعات.

إن ما ظهر منذ بدء الإحتجاجات هو تمرّدٌ ضد النظام وانهيار تام للثقة في جميع المؤسسات – مؤسسات الدولة والأحزاب السياسية والقطاع المصرفي والإتحادات والجمعيات المهنية. رافق هذه الثورة شعور متزايد بالتضامن الوطني والإعتراف بأن صياغة “نحن ضدهم” لم تعد تدور حول الطائفة أو العرق أو الطبقة أو الجنس. إنه حول طبقة سياسية فاسدة مقابل بقية البلاد.

جنباً إلى جنب مع هذه الصحوة الوطنية، فإن اللحظة هي أيضاً حول قلب ورفع المعايير الإجتماعية. ما يحدث هو جزئياً إنتفاضة ضد النظام الأبوي الذي يحافظ على العلاقات غير المُتكافئة بين المواطنين، وخصوصاً النساء. كانت النساء في طليعة التظاهرات، حيث قُمن بتعبئة وتشكيل خطوط دفاع بين المتظاهرين والأجهزة الأمنية، وبتنظيم الأحداث، وقيادة الجهود لتخفيف التوترات الطائفية بين الأحياء. كما طالبن بحقوق متساوية في بلد يتم فيه تحديد العلاقة بين المواطنين والدولة بموجب قوانين الأحوال الشخصية للمجتمعات الطائفية. وهذا يعني بالنسبة إلى النساء أنهن يتعرّضن لواحد من ثمانية عشر نظاماُ مختلفاً من القانون المجتمعي في ما يتعلّق بالزواج والطلاق والميراث وحضانة الأطفال.

وبالمثل  فقد احتجّين أيضاً على القوانين التمييزية الأخرى التي تعرّضن لها. للحفاظ على التوازن الديموغرافي في النظام الطائفي في لبنان، تُحرم المرأة من حق منح الجنسية اللبنانية لأطفالها إذا كانوا من أب غير لبناني. وقد أدانت النساء بغضب هذا الإنكار الصارخ للمكانة المتساوية بموجب القانون.

حركة الإحتجاج هي أيضاً حول الأجيال. يوضح العدد الكبير من طلاب المدارس الثانوية والجامعات المشاركين أنهم يقاتلون من أجل مستقبلهم. البطالة مرتفعة، واحتمالات متابعة مهن مرضية والإثراء ُمنخفضة، وفوق ذلك لا يمكن للشباب التصويت حتى يبلغوا 21 عاماً. هذا الجيل هو جيل ما بعد الإيديولوجية يؤمن بحقوق ومسؤوليات المواطنة، ويُلقي الكثير من الشباب باللوم على والديهم لإيصال لبنان إلى هذا الوضع السيىء ومن حيث يجب عليهم الهجرة لتحسين آفاقهم وضمان مستقبلهم. إنهم يريدون أن يتم تعريفهم بالأفكار وليس بهوياتهم. إن البلاد مليئة بالديون التي ستؤثر في الشباب لعقود من الزمن، وهي تفتقر إلى البنية التحتية الأساسية، وقد تسممت بيئتها من خلال اتباع ممارسات مرتزقة، مما أثار احتجاجات في الماضي.

تدور هذه الحركة أيضاً حول الإقصاء المنهجي للسكان الفقراء في البلاد، سواء كانوا يعيشون في الأطراف الجغرافية اللبنانية أو على أطراف المدن والبلدات الرئيسة. يحتج السكان على تهميشهم المستمر من الحياة السياسية والاقتصادية في بلد كان تاريخياً  يُركز مثل هذه الأنشطة في بيروت.

في طرابلس، التي أُطلق عليها اسم “عروس الثورة” بسبب ارتفاع معدل المشاركة في التظاهرات، يعيش 51 في المئة من السكان في فقر مدقع بأقل من 4 دولارات في اليوم لعائلة مُكوّنة من خمسة أفراد، مقارنة بالمعدل الوطني البالغ حوالي 15 دولاراً في اليوم. وقد وصلت معدلات البطالة في بعض أحياء المدينة إلى 55٪. وفي النبطية، جنوب لبنان، يعيش 25 في المئة من السكان تحت خط الفقر وتبلغ البطالة 13 في المئة. وفي عكار، 13 في المئة من الأطفال يعملون. وبالنظر إلى الأزمة الاقتصادية وعشرات الآلاف من الأشخاص الذين فقدوا وظائفهم نتيجة لإغلاق الشركات، فإن المزيد والمزيد من المتظاهرين من هذه المناطق وعبر لبنان سيخرجون إلى الشوارع.

الإحتجاجات هي أيضاً حول معارضة تفضيل امتياز العلاقات والطائفة على الجدارة. يلعب المحترفون والمهنيون والمغتربون دوراً رئيساً في هذه العملية، حيث يدعمون أو ينظمون الاحتجاجات والندوات والمناقشات. لقد تم حرمانهم على مدى عقود من قبل نظام فشل في منح الوظائف والعقود على أساس القدرة والكفاءة. على النقيض من ذلك، فإن الكثير من اللبنانيين ينجحون في الخارج على الرغم من أنهم لم يتمكنوا من إحداث تغيير في الوطن.

الإنتفاضة هي أيضاً حول إعادة اكتشاف المجال العام، وإعادة تأكيد مفاهيم الصالح العام واستعادة حقوق المواطنين في مدنهم وبلداتهم وقراهم، حيث تم تطويق أحياء بأكملها لأغراض أمنية أو تحت ذريعة إعادة التمدن الحضري. لقد تم فتح الساحات العامة والمسارح المهجورة والرموز المعمارية قبل الحرب الأهلية ومواقف السيارات الخاصة في وسط بيروت التاريخي. تم تحويلها إلى فضاءات للنقاش حول مواضيع كانت ذات يوم مقصورة على الناشطين الأكاديميين أو المجتمع المدني. يقوم المحامون والمنظمات الطلابية والنقابات العمالية وأساتذة الجامعات وبعض الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني بتنظيم هذه المناقشات يومياً في أماكن الاحتجاج المختلفة. إنهم يتناولون مواضيع متنوعة مثل القوانين الانتخابية، ودور وسائل الإعلام، والخيارات الاقتصادية للبنان، والصالح العام، والمشاعات المشتركة، وكيفية التعامل مع الصدمات النفسية بعد الحرب الأهلية، وما قد يبدو عليه لبنان الجديد.

لأول مرة في تاريخ البلاد، دفع هذا الإحساس الجديد بالتمكين ممثلي حوالي 500 شركة من القطاع الخاص إلى تنظيم تظاهرة مع موظفيهم أخيراً. وأعلنوا أنهم سيرفضون دفع الضرائب، وبدلاً من ذلك، سيحوّلون المبالغ إلى موظفيهم، وبهذه الطريقة تتجنب هذه الشركات الإضطرار إلى تسريحهم. وقد حدث ذلك خارج نطاق غرف التجارة التقليدية والجمعيات التجارية والمؤسسات التمثيلية الأخرى ذات الصلة بالقطاع الخاص. وبالمثل، تحوّل العديد من هؤلاء الأفراد الآن إلى إنشاء جمعيات بديلة ومستقلة قادرة على تمثيل مصالحهم.

لا يبدو واضحاً كيف سيصمد هذا الإحساس الجديد بالتضامن الاجتماعي وقلب ورفع المعايير أمام اختبار الزمن. لكن هناك تحوّلاً إجتماعياً أساسياً في لبنان ستكون له تداعيات مع مرور الوقت. ستلعب النساء دوراً أكثر وضوحاً في الشؤون العامة، وكذلك الشباب الذين هم مستقبل البلاد. سيُحدّد المُضطهدون والمظلومون في لبنان طبيعة الزعماء السياسيين في البلاد، الذين سيخضعون للمساءلة العامة. ويتوجّب على الساسة اللبنانيين أن يقبلوا أنه بقدر ما يتعلق الأمر بهم، لم يعد الأمر كالمعتاد. من أجل البقاء، فإنهم يحتاجون إلى حساب الحقائق الإجتماعية الجديدة.

إن التضامن هو الذي مكّن اللبنانيين من الفوز في احتجاجاتهم وتحقيق انتصارات مهمة. ولكن الأهم من ذلك، من الضروري حماية الشعور الناشئ بالصحوة الوطنية، فيما اللبنانيون يجتازون الأشهر المضطربة المقبلة، والتي ستتميز بعدم اليقين الإقتصادي والسياسي الكبير. وقد تُحاول القيادة السياسية على نحو متزايد تأجيج التوترات الطائفية لأنه ليس لديها الكثير لتقدمه. وقد تزداد غريزة العودة إلى القادة الطائفيين إذا تمكّن هؤلاء القادة بأعجوبة من تقديم بعض أشكال الإغاثة الإقتصادية. لكن التعاطف مع أولئك الذين ركّعوا البلاد على ركبتيها لن يجلب لهم حياة أفضل. لذلك، لا يمكن للبنانيين سوى الإعتماد فقط على إخوانهم المواطنين.

  • مهى يحيى هي مديرة مركز كارنيغي للشرق الأوسط، حيث تركز أبحاثها على المواطنة والتعددية والعدالة الإجتماعية في أعقاب الانتفاضات العربية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى