لماذا ما زالت أميركا تفشَل في العراق؟

لا تستطيع القوة العسكرية الأميركية وفرض العقوبات إصلاح السياسة الهشّة في العراق الذي تُهيمن عليه الجماعات المسلحة. هناك حاجة إلى نهجٍ أكثر استدامة تجاه هذه الجماعات.

القوات الأميركية في العراق: بدأ الحوار لانسحابها؟

ريناد منصور*

أدّى الهجوم الذي شنّته حركة “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، والغزو الإسرائيلي الذي تلاه لقطاعِ غزة، إلى اندلاعِ موجةٍ جديدة من أعمال العنف في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. لقد أثبت السلام في المنطقة، الذي طالما كان هدفَ واشنطن المُعلَن، أنه مجرّدُ وَهم. بغضِّ النظرِ عن عدد المرات التي حاولت فيها الولايات المتحدة الابتعاد عن الشرق الأوسط، يبدو أنَّ العنفَ كان دائمًا يجذبها ويُعيدُها مرة أخرى. في هذه الدورة الأخيرة، كان انسحاب إدارة بايدن المُتَسَرِّع من المنطقة مَبنيًا على ادّعائها بأن الإقليم صار أكثر استقرارًا منذ عقود. ومع ذلك، في العراق، تعرّضت القواعد الأميركية مرة أخرى لهجومٍ من الجماعات المسلحة، ما عرّضَ للخطر وقفُ إطلاق النار المؤقت الذي سمح لبغداد وواشنطن التوقيع على حوارِ التعاون الأمني المشترك في آب (أغسطس) 2023 وبدء مفاوضاتٍ أوسع، بما في ذلك إنسحاب القوات الأميركية من البلاد. وقد أدى العنف الإقليمي بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر) إلى تعقيد هذه العملية.

كذلك الحال مع صعود “محور المقاومة”، وهو شبكةٌ من الجماعات المسلحة المتحالفة مع إيران والتي تضم “كتائب حزب الله”، وحركة “حزب الله النجباء”، و”كتائب سيد الشهداء” في العراق وسوريا، و”حزب الله” في لبنان، والحوثيين في اليمن. وهذه الجماعات راسخة سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا وإيديولوجيًا في دولها، وتُوَحِّدُها مُعارضتها المُشتَركة للاحتلالِ الأجنبي.

هاجمت القوات الأميركية هذه الجماعات في العراق وسوريا واليمن، ما أسفر عن مقتل كبار قادتها وتدمير مراكزها التجارية ومستودعات أسلحتها. كما فرضت واشنطن عقوبات على بنوكها وشركاتها. لكن هذه الضربات والإجراءات العقابية – التي وصفها مسؤول أميركي كبير بأنها “اجتزاز الخلد”- لم تكن ناجحة في تأمين السلام أو الاستقرار. والجماعات التي استهدفتها واشنطن لم تختفِ. بدلًا من ذلك، ازدهرت هذه القوى، وأصبحت أكثر قوة داخل بلدانها والمنطقة على نطاق أوسع. لقد أثبتت واشنطن عجزها عن معالجة المصادر الحقيقية لقوة هذه الجماعات، والتي لا تكمن في البنية التحتية العسكرية وحدها، بل في الهياكل الاجتماعية والسياسية في الشرق الأوسط. تزدهرُ الجماعات المسلحة في ظلِّ حكوماتٍ هشّة، وتشمل شبكاتها وزراءً، وبرلمانيين، وقضاة، وكبار البيروقراطيين، ومنظّمي المجتمع المدني. ويسمح هذا النفوذ لهذه الجماعات، إلى جانب المؤسّسة السياسية الأوسع في هذه البلدان، بالاستفادة من خزائن الدولة والتمتّع بالإفلات من العقاب من أيِّ ملاحقة قضائية – كل ذلك أثناء أداء وظائف الدولة الرئيسة على المستوى الوطني والمحلّي.

إن استخدامَ واشنطن للعنف والعقوبات لم يفعل الكثير لإضعاف قوة هذه الجماعات أو التقليل من قوتها. وذلك لأنَّ القنابل والعقوبات لا تؤدي إلى إصلاحٍ سياسي. هناك حاجة إلى استجابة أميركية أكثر تماسُكًا وشمولًا لتشجيع مُساءلة حكومات الشرق الأوسط والتحقّق من سلطة النخبة والإفلات من العقاب السائد في المنطقة. هذه هي الطريقة الوحيدة لتجاوز دائرة المكاسب السريعة ووقف إطلاق النار المؤقت، الذي لا يصمد أبدًا.

فشل القوة

أصبحت الجماعات المسلحة في العراق وسوريا قوية خلال القتال ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”، المعروف أيضًا ب”داعش”، والذي استولى في العام 2014 على ثلث العراق وما يقرب من نصف سوريا. وعندما انهار الجيش العراقي الذي درّبته وموّلته الولايات المتحدة بين عشية وضحاها، انضمت هذه المجموعات إلى قوات الحشد الشعبي التي تمّ تشكيلها حديثًا، والتي كانت أول مجموعة ترد وتقاوم تقدّم “داعش”. تضم قوات الحشد الشعبي عشرات الجماعات المسلحة من مختلف الأطياف العرقية والطائفية، رُغمَ أن غالبيتها شيعية، ولها إيديولوجيات مختلفة. فبعضها يهتم بالأمور المحلية، ويُركّز على الدولة العراقية، في حين يرى البعض الآخر أنه جُزءٌ من صراعٍ طلائعي أوسع عابر للحدود الوطنية وشامل للشيعة، بالشراكة مع إيران، لدعم الحلفاء بما في ذلك نظام بشار الأسد في سوريا، و”حزب الله” في لبنان والحوثيين في اليمن. لسنواتٍ عدة، قاتلت هذه الجماعات في الجانب نفسه مع واشنطن لطرد “داعش” من العراق وسوريا. ولكن بعد النصر على عدوّهما المشترك، انقلبت قوات الولايات المتحدة وقوات الحشد الشعبي على بعضهما البعض وبدأتا القتال. وسعت واشنطن، خصوصًا خلال إدارة دونالد ترامب، إلى استهداف إيران من خلال مهاجمة حلفائها في المنطقة، وبخاصة مجموعات قوات الحشد الشعبي في العراق وسوريا. ولتحقيق هذه الغاية، في كانون الثاني (يناير) 2020، قتلت القوات الأميركية الجنرال في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني وزعيم قوات الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس.

قال لي مسؤولٌ أميركي كبير في العام 2019 أنَّ الجماعات، بما في ذلك “كتائب حزب الله”، تُشبهُ “الورمَ السرطاني الذي يجب استئصاله جراحيًا”. إنَّ الخُبثَ المُفتَرَض لهذه الجماعات يعني أنَّ الطريقة المُفضَّلة لدى واشنطن للتعامل معها هي العنف دائمًا. وقد ظهر ذلك أخيرًا عندما قتلت “كتائب حزب الله” ثلاثة جنود أميركيين في الأردن في 28 كانون الثاني (يناير)، وردّت إدارة بايدن في 2 شباط (فبراير) بشنِّ غاراتٍ جوية على 85 هدفًا في سبعة مواقع في العراق وسوريا. وتمَّ ضَربُ قواعد ومستودعات أسلحة للجماعات المسلحة، مع قتل اثنين من قادة “كتائب حزب الله” في وسط بغداد بعد أيام.

أيَّدَ العديدُ من المسؤولين والمُحَلّلين الأميركيين هذا الردّ، على الرُغم من أنَّ البعضَ، بمن فيهم رئيس مجلس النواب مايك جونسون ورئيس لجنة المخابرات في مجلس النواب مايك تيرنر، اشتكى من أنَّ الردَّ لم يكن كافيًا وكان ينبغي أن يأتي بشكلٍ أسرع وبقوّةٍ أكبر. وقال هؤلاء إن التأخير أعطى إيران وحلفاءها الكثير من الوقت للاستعداد والابتعاد عن الأهداف الأميركية المُحتمَلة. ومع ذلك، أدّت الهجمات إلى وقف الأعمال العدائية، حيث أعلنت “كتائب حزب الله” على الفور وقف إطلاق النار، وحذت الجماعات الأخرى حذوها. لقد حدث هذا من قبل: تؤدّي الضربات إلى وقف إطلاق النار بشكلٍ دوري من دون الحَدِّ من تأثير هذه الشبكات أو تؤدي إلى منطقةٍ أكثر استقرارًا. إنَّ وقفَ إطلاق النار لا يدوم طويلًا.

أبعد من الغارات

استخدمت الولايات المتحدة أسلحة أخرى لإضعاف نفوذ هذه الجماعات، بما في ذلك العقوبات. وقد صنّفت وزارة الخارجية الأميركية العديد من مجموعات وقادة الحشد الشعبي كمنظمات إرهابية أو أفراد إرهابيين، وفي الجولة الأخيرة، التي أُعلِنَ عنها في كانون الثاني (يناير)، أضافت واشنطن عشرات البنوك والأفراد إلى القائمة. وشمل ذلك شركة الطيران العراقية “فلاي بغداد”، التي كانت على ما يبدو تنقل أصول الحرس الثوري الإسلامي.

بالنسبة إلى المجموعات التي تُعتَبَرُ أكثر قبولًا -بما في ذلك جماعات العتبات التي لا تزال موالية لآية الله العظمى علي السيستاني، أو حتى منظمة بدر، وهي واحدة من أكبر مجموعات قوات الحشد الشعبي والأكثر اندماجًا في الحكومة العراقية – حاولت الولايات المتحدة التعاون معها. وقد أثبتت واشنطن استعدادها للعمل مع مجموعات الحشد الشعبي التي تعتبرها أقل تحالفًا مع إيران أو محور المقاومة وأكثر تركيزًا على الدولة العراقية. ولتحقيق هذه الغاية، حاولت أميركا حثّ قادة قوات الحشد الشعبي، بمن فيهم رئيس هيئتها، فالح الفياض، ورئيس منظمة بدر، هادي العامري، على الاندماج في الحكومات والتسويات السياسية في بلدهما. وقد سعت واشنطن إلى تحفيز هذه الجماعات من خلال وعدها بتقديم الدعم السياسي لها. وقد أخبرني أحد كبار المسؤولين الأميركيين في العام 2021 أن بعض المجموعات المرتبطة بقوات الحشد الشعبي في بغداد كان في وضع أفضل لكونه جُزءًا من الحكومة العراقية لأنَّ ذلك سيجعله أكثر عرضة للمساءلة أمام الدولة، وبالتالي الجمهور.

مع ذلك، أثبتت واشنطن مرارًا وتكرارًا أنها غير قادرة على اتباعِ استراتيجيةٍ مُتماسكة والتعامُلِ مع الشبكات التي تُشَكّلُ الدولة العراقية. لم يكن تحييد الجيد واستهداف السيئ أمرًا سهلًا دائمًا. على سبيل المثال، أدى اغتيال سليماني والمهندس وغيرهما من القادة العسكريين إلى زيادة الصعوبة بالنسبة إلى الأفراد الذين يمكن أن يتعاملوا مع الولايات المتحدة. ويرجع ذلك جُزئيًا إلى أن قيمة الدعم الأميركي -وهو حافز رئيس في عراق ما بعد العام 2003- تتضاءل مع كل هجوم أميركي أو خطَإٍ فادح في السياسة الخارجية. والأهم من ذلك هو أن مجرد دمج الميليشيات في الحكومة والأمل في أن تصبح أكثر عرضة للمساءلة لم ينجح. وفي السنوات التي أعقبت الغزو الأميركي، تم دمج منظمة بدر والتيار الصدري وآخرين في الإدارات الحكومية، بما في ذلك وزارتي الداخلية والدفاع، فضلًا عن جهاز الأمن الوطني. إن الافتقار إلى المساءلة في هذه المؤسسات يعني أن هؤلاء المقاتلين خدموا مصالح النخب الحاكمة، وليس رؤساؤهم في إدارات الدولة ومؤسساتها.

خيار واشنطن

ليست السياسات الأميركية غير فعّالة في الحدِّ من نفوذ هذه الجماعات المسلحة فحسب، بل إنَّ ذلك كان له ثمن. لقد أدّى مقتل كبار القادة في بعض الأحيان إلى تعطيل التسلسل القيادي، ما نتج عنه زيادة في المجموعات الحرة وغير المنضبطة المستعدة لتوجيه ضربات بدون موافقة قيادة قوات الحشد الشعبي أو حلفائها الإيرانيين. على سبيل المثال، كانت وفاة الباحث العراقي هشام الهاشمي في تموز (يوليو) 2020، نتيجةً للفوضى التي أعقبت مقتل المهندس، الذي كان في الماضي قادرًا على السيطرة بشكلٍ أفضل على هذه الميليشيات. في الواقع، يمكن للضربات الأميركية أن تجعل هياكل القيادة أكثر تفككًا، كما رأينا في مقتل ثلاثة جنود على أيدي “كتائب حزب الله” في الأردن. لقد تعارضت الضربة مع مصالح مجموعات قوات الحشد الشعبي التي تُركّزُ على الداخل، مثل منظمة بدر أو “عصائب أهل الحق”، والتي تستفيد من الوضع الراهن في بغداد وتريد تقليل أي تصعيد إقليمي قد يُعرّض قوتها الداخلية للخطر.

في قلب فشل الولايات المتحدة لإيجاد طريقة للتعامل مع هذه الجماعات تكمن قراءة خاطئة جوهرية لطبيعتها، وعلاقاتها المتبادلة، وعلاقاتها بحكومات المنطقة. هذه الجماعات المسلحة ليست منظمات عسكرية حصرية يمكن عزلها عن الشبكات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الإيديولوجية الأوسع التي تعبر الحدود الحكومية وغير الحكومية. بل إن العديد منها لديها أحزابها السياسية الخاصة التي تنشط على المستويين المحلي والوطني. علاوة على ذلك، فإن هذه الجماعات لديها حلفاء في الخدمة المدنية، والقضاء، والجيش. وغالبًا ما تقاتل جنبًا إلى جنب مع القوات الحكومية للدفاع عن الدولة ضد الجماعات المتمرّدة، بما في ذلك “داعش”، أو ضد الحركات الاحتجاجية، كما رأينا في العراق في العام 2019. والعلاقات بين هذه الجماعات المسلحة والمؤسسات السياسية والاجتماعية تعني أنَّ أيَّ محاولة عسكرية مباشرة لعزلها وإزالتها لن يؤثر في قوتها أو في شبكاتها الأوسع.

هناك حاجة إلى نَهجٍ مختلف. ويجب أن يبدأ الأمر بالاعتراف بأنَّ هذه الجماعات ليست شذوذات مستقلة ولكنها لا يمكن فصلها عن شبكات السلطة التي تحكم دول الشرق الأوسط، حيث تعتمد النُخَب الحاكمة على ميليشياتها الخاصة للحفاظ على السلطة. في المدى القصير، فإن إدارة بايدن والحكومة في بغداد، التي تضم قادة قوات الحشد الشعبي التي تُركز على الداخل، هما على الصفحة نفسها. إنهما يريدان الحفاظ على وقف إطلاق النار مع “محور المقاومة” والمضي قدمًا مع اللجنة العسكرية العليا لإعادة التفاوض على العلاقة الثنائية بين البلدين، بما في ذلك انسحاب القوات الأميركية الحالية. لكن هذا سيتطلب الضغط من أجل وقف إطلاق النار في غزة، لأنَّ تصرّفات إسرائيل كانت لها عواقب في جميع أنحاء المنطقة.

في المدى الطويل، هناك حاجة إلى نهجٍ أكثر استدامة تجاه هذه الجماعات المسلحة. ينبغي على واشنطن أن تُحوّلَ نهجها بعيدًا من التركيز فقط على الجماعات المسلحة، وبدلاً من ذلك تدرس ملامح التسويات السياسية التي تسمح لهذه الجماعات بالانتشار. إن المفتاح لضمان استمرار وقف إطلاق النار، وعدم تفككه وجذب الولايات المتحدة مرة أخرى، هو تعزيز المساءلة. لذا، ينبغي على واشنطن وحلفائها من ذوي التفكير المماثل أن يركّزوا على إصلاح الدول التي يلحق قادتها الضرر بشعوبهم بشكل يومي. فالفساد منتشر في هذه البلدان ويُقدّم مكافآت مالية وإفلاتًا من العقاب لهؤلاء القادة والجماعات المسلحة الذين استولوا على البيروقراطيات الحكومية. التحدي الوحيد الذي يواجه هذا النظام ونخبه هو الجمهور الذي يحتج ويطالب بحياة أفضل. المفتاح إذن بالنسبة إلى الولايات المتحدة وحلفائها هو ضمان أنَّ استراتيجيتهم تدعم حركات المجتمع المدني هذه وتجد طريقة للحد من الصراع اليومي. وهذا، ليست الضربات العسكرية، هو الطريق إلى السلام.

  • ريناد منصور هو زميل أبحاث أول ومدير مشروع مبادرة العراق في مركز الأبحاث البريطاني “تشاتام هاوس”. يُمكِن متابعته عبر منصة تويتر (X) على: @renadmansour

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى