الحِيادُ مَدخَلٌ لإلغاءِ الطائفِيّةِ السياسيّةِ واستِكمالِ تطبيقِ الدُستور

الرئيس العماد ميشال سليمان*

وثيقةُ الوفاقِ الوطني، وبكونها العقد الاجتماعي بين اللبنانيين، تُشَكِّلُ القاعدةَ المَرجعية التي انبثق منها الدستور اللبناني، والدستور هو قانونُ الدولة السياسيّ ويَتَضَمّنُ مجموعة من القواعد الأساسية التي تُنظّمُ العلاقة بين سلطات الدولة كما تُحدّد اختصاص كلٍّ منها وطرق ممارسة صلاحياتها بهدف إدارة شؤون الدولة الداخلية والخارجية.

من المُسَلّم بهِ أنّ العقدَ الاجتماعي يتَّصف بعدم الثبات نظراً الى اتّصاله بالسلوك الانساني والاجتماعي الذي يتّسم هو الآخرُ بالتّحوّل والتَغَيّر، وبخاصة في الدول التعدّدية مثل لبنان، حيث يتعرّض لِلاهتزاز تبعاً للتطور الديموغرافي ولتطور الأوضاع في الدول المحيطة بها، فيؤدي ذلك إلى خللٍ في تطبيق الدستور وإلى عدم الالتزام بروحه بسبب التباين في فهم وتفسير المُفرَدات والمُصطلحات المُتعلّقة بالاستقلال والحرّية والسيادة والديموقراطية والهوِيّة والعيش المشترك…لذلك ينبغي العمل على تحصين هذا العقد كي يبقى صالحاً لفترات طويلة ممّا يُرسي استقراراً سياسياً ينعكس نمواً اقتصادياً واستقراراً أمنياً وقانونياً واجتماعياً. إن عملية التحصين لا تَتِمّ إلّا عبر استكمال تطبيق الدستور وسَنّ القوانين وإصدار المراسيم التنظيمية الضرورية للتفسير والتطبيق كما والاجتهاد من ضمن روحية القانون بُغية الوصول إلى تعديلاتٍ تشرح بوضوح آليات حسن التنفيذ من دون أن تمسّ بجوهر العقد الاجتماعي أو بصلاحيات وبمسؤوليات مُختلف السلطات التشريعية والاجرائية والقضائية.

أما اليوم وقد تشكلت الحكومة بعد 12 شهراً ونيّفاً، وهي مُدّة تمَيّزت بانهيار الاقتصاد والمؤسسات وبفقدان هيبة الدولة وباقتراب المجتمع اللبناني من الانفجار، فقد آن الأوان للنظر في السبل الناجعة للسيرِ قُدُماً في تطبيق ما لم يُطَبَّق بعد من الدستور، نصّاً وروحاً، حفاظاً على العقد الاجتماعي بين اللبنانيين الذي فاق الثلاثين عاماً من العمر. يبدو جليّاً، من خلال المحن التي مرّ بها لبنان خلال العقود الماضية، أنّ تطبيق المادة /95/ من الدستور والمُتَعلّقة بإلغاء الطائفية السياسية وبالمداورة في كل المواقع والسلطات والقيادات وباعتماد اللامركزية الإدارية المُوَسَّعة وقانون انتخابٍ على قاعدة غير طائفية، ناتج عن خشية الطوائف من تغيير هويّة لبنان من جرّاء الاصطفاف في محاور الصراعات او الإنزلاق الى أيّ شكل من أشكال التقسيم تحت عنوان الفيديرالية أو غيرها.

إنّ تبديدَ الهواجس المُشار إليها يتحقّق من خلال اعتماد الحياد الناشط أو من خلال ما جاء في إعلان بعبدا، “تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الإقليمية والدولية وتجنيبه الانعكاسات السلبية للتوتّرات والأزمات الإقليمية، وذلك حرصاً على مصلحته العليا ووحدته الوطنية وسلمه الاهلي، ما عدا ما يتعلق بواجب التزام قرارات الشرعية الدولية والإجماع العربي والقضية الفلسطينية المُحِقّة، بما في ذلك حقّ اللاجئين الفلسطينيين في العودة الى أرضهم وديارهم وعدم توطينهم”. في هذه الحالة يُشكّل الحياد الضمانة لجميع الطوائف، على تعدّدها وتنوّعها وبخاصة تلك الأقلّ عدداً، بعدم تغيير الهويّة اللبنانية من جرّاء تغيير الأكثريات العددية والبرلمانية تبعاً للتحرّر من القيد الطائفي في قانون الانتخاب وتزامناً مع استحداث مجلس الشيوخ. هذا التحييد لا يُمكن تطبيقه من دون حصر السلاح بيد الدولة وتفرّدها بقرار السلم والحرب في إطار استراتيجية دفاعية تضمن سيادة الدولة على كامل حدودها، “وعدم السماح بإقامة منطقة عازلة في لبنان واستعمال لبنان مقرّاً أو ممرّاً أو مُنطلقاً لتهريب السلاح والمُسلحين” وفقاً للبند /13/ من إعلان بعبدا.

إذا كان الحياد كضمانة لعدم تغيير الهوية اللبنانية يُشكّلُ مَدخلاً صالحاً لإلغاء الطائفية، فإن الدستور ووثيقة الوفاق الوطني يضمنان المشاركة والتعدّدية في النص والروح. فالدستور إذ ينص في البند /ح/ من مقدّمته على أن إلغاء الطائفية السياسية هو هدف وطني، فالمقدمة نفسها تنص في البند “ي” على أن “لا شرعية لأيِّ سلطة تُناقض ميثاق العيش المشترك”، وينص اتفاق الطائف على وجوب أن يُراعي قانون الانتخابات النيابية القواعد التي تضمن العيش المشترك أيضاً. إنطلاقاً من هذه المواد والنصوص التي تشترط الحفاظ على وحدة الدولة واستقرار النظام ووحدة الأرض والشعب والمؤسسات، تتولى الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية بعد تشكيلها اقتراح الخطة المرحلية المنصوص عليها في المادة /95/ وفقاً للخطوط العريضة الآتية:

* إضافة تحييد لبنان عن صراعات المحاور في مقدمة الدستور، مع الإشارة الى أن هذا التحييد لا يتعارض مع موقف لبنان من القضية الفلسطينية، لأن اسرائيل هي مُغتَصِبة للأرض الفلسطينية وتُعادي لبنان والعرب، كما أن لبنان طَرَحَ المبادرة العربية للسلام (2002) كحلٍّ لهذه القضية، كذلك لا يصحّ التذرّع بعدمِ إمكانية اعتماد أحد أنماط الحياد المُتَّبعة في دول العالم، فما يتّفق عليه اللبنانيون هو الأساس في خياراتنا المصيرية.

* إقتراح إنشاء مجلسٍ للشيوخ يُمثّلُ العائلات الروحية مُناصَفَةً وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية (المادة 22 من الدستور)، واقتراح قانون انتخابات نيابية خارج القيد الطائفي وعلى أساس المحافظة، على أن يراعي القواعد التي تضمن العيش المشترك بين اللبنانيين وتؤمّن صحّة التمثيل السياسي لكافة فئات الشعب وفعالية ذلك التمثيل (البند /ج/ من الفقرة /3/ الإصلاحات الأخرى من وثيقة الوفاق الوطني). وإذ ينبغي أن تكون قاعدة الاقتراع في هذا القانون غير طائفية ولا مذهبية ولا يشبه بأي حال القانون الحالي، فيُمكن الإبقاء على المناصفة أو على حدٍّ أدنى من نسبة التمثيل الطائفي للمسلمين وللمسيحيين (40/100) وعلى حدٍّ أدنى لكلّ مذهب لفترة انتقالية لا تقلّ عن ثلاث دورات لاختبار فعالية مجلس الشيوخ.

* إقتراح تعديل وتحديث نظام الموظّفين بالاعتماد على الكفاءة في التوظيف وإقرار آلية تعيينات بموجب قانون، ووضع أُسُسٍ للمداورة في الإدارات العامة وفي القيادات والمجالس ما بين الطوائف في وظائف الفئة الأولى مستندة إلى الكفاءة. هذا وينبغي أن يتمّ التعيين بالأكثرية المُطلَقة في مجلس الوزراء بالاستناد الى المعايير القانونية وليس بالثلثين (يتطلب تعديلاً دستورياً). كما ينبغي تطبيق البند “ي” من مقدمة الدستور بالابقاء على المُناصفة في هذه الفئة في الوزارات والمؤسسات التي تلعب دوراً اساسياً في المحافظة على الهوية والحياد والإنماء المُتوازن مع الإلتزام بنصّ الدستور وروحه، وعلى سبيل المثال:

أ ـ عدالة التمثيل في مجلس الوزراء بين الطوائف (المُناصفة) وليس بين الكتل السياسية، والعودة الى الأصول الديموقراطية التي تقضي “أكثرية تحكم وأقلية تُعارض” من دون هواجس.
ب ـ الجيش والقوى العسكرية على مستوى تطويع الضباط بهدف المحافظة على التفاف الشعب حولهما.
ت ـ في وزارتَي الدفاع والداخلية على مستوى المؤسسات التابعة لهما والمديرين العامين والمحافظين والقائمقامين ومجالس القيادة والاركان الخ…
ث ـ في وزارة الخارجية على مستوى السفراء والقائمين بالأعمال والمستشارين والقناصل…
ج- في وزارة العدل والهيئات الرقابية والمجالس المستقلة على مستوى رؤسائها ورؤساء المحاكم وتعيين القضاة والمفتشين…
ح- في وزارتَي المال والأشغال العامة والتربية الوطنية والتخطيط بعد انشائها وغيرها على مستوى الفئات الثانية والأولى لمراعاة مبدأ الإنماء المتوازن للمناطق ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً (وفقاً للبند /ز/ من مقدمة الدستور).

ومن أجل تعزيز الضمانات للمشاركة والتعدّدية، وبالإضافة إلى ما ورد أعلاه، على الهيئة الوطنية اقتراح ما تَراه مناسباً من أجل إلغاء الطائفية مع المحافظة على روح الدستور ونصّه. كما على مجلس الوزراء أن يُبادرَ فور تشكيله الى مناقشة الاستراتيجية الدفاعية ووضع جدول زمني لتخلّي “حزب الله” عن سلاحه، واقتراح قانون اللامركزية الإدارية واستقلال السلطة القضائية.

أما مسك الختام فهو في اقتناع اللبنانيين بالمداورة بين رئاسات الجمهورية والحكومة ومجلسي النواب والشيوخ على أساس مقعد رئاسي في السلطة التشريعية (نواب أو شيوخ) ومقعد في السلطة الإجرائية (رئاسة جمهورية أو حكومة) لكلٍّ من المسيحيين والمسلمين شرط ألّا يُنتَخَب رئيسان من المذهب نفسه. هكذا تبطل الشكوى من الصلاحيات وتنتفي عملية تنازعها بين السلطات التي شلّت البلاد ويحلّ مكانها مبدأ توزّع المسؤوليات.

إن خريطة الطريق هذه كانت البرنامج المزمع إطلاقه وتنفيذه في العام 2012 في ما لو طُبّق إعلان بعبدا وأقرّت الاستراتيجية الدفاعية التي وضعتُ تصوراً لها لمناقشته.

  • العماد ميشال سليمان هو رئيس جمهورية لبنان السابق.
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى