كيف ساعدت “الهندسة المالية” على دفع الاقتصاد اللبناني إلى الإنهيار

الرحيلُ الوشيك لحاكم البنك المركزي في لبنان رياض سلامة يُثيرُ تساؤلاتٍ حول كيفية قيام النخبة السياسية والاقتصادية في البلاد بإثراء نفسها على حساب الشعب – حتى في الوقت الذي ساعدت أفعالهم على إحداث أزمة اقتصادية هائلة.

عندما فقد الشعب الثقة في المصارف اللبنانية

راني بلوط*

يبدو أن الدعمَ السياسي لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة بدأ يتضاءل، وفقًا لتقريرٍ لوكالة “رويترز” نقلًا عن مصادر سياسية تحدّثت شريطة عدم الكَشفِ عن هويتها. وكان سلامة نفسه أعلن في مقابلة مع “الشرق نيوز” في شباط (فبراير) الماضي، وبعدها مرارًا وتكرارًا، أنه لن يسعى للحصول على فترة ولاية جديدة بمجرد انتهاء فترة ولايته في الشهر المقبل. ومع ذلك، هناك تقاريرٌ غير مؤكدة تُفيدُ بأنَّ سلامة قدَّمَ استقالته بالفعل في آذار (مارس) إلى رئيس وزراء جكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي. وبحسب ما ورد فهو ينتظر موافقة الحكومة، والتي تشكّلُ عملية معقدة بسبب الحاجة إلى الحفاظ على توازن القوى الطائفي.

في غضون ذلك، يبدو أن التحقيقات في الجرائم المالية المزعومة التي ارتكبها سلامة في لبنان وأوروبا تتسارع. يواجه سلامة العديد من الاتهامات بجرائم مزعومة، بما في ذلك اختلاس الأموال العامة والفساد والإثراء غير المشروع وغسيل الأموال. وقد عاد المحققون الأوروبيون إلى لبنان في أواخر نيسان (إبريل) لمواصلة استجواب الشهود والأفراد المُتَّهمين في لبنان الذين هم على صلة بهذه المزاعم.

وتأتي هذه التطورات على خلفية الشلل السياسي مع استمرار الجمود في انتخابِ رئيسٍ للجمهورية في لبنان. لكن في الوقت نفسه، هناك حاجة ملحة إلى استعادة الثقة في المؤسسات المالية والمصرفية في البلد الذي يواجه كارثة اقتصادية ومالية غير مسبوقة. الأزمة، التي تتضمّن مجموعة رهيبة من العوامل الاقتصادية والمالية، بما في ذلك التخلّف عن سداد الديون الخارجية الضخمة، والتضخّم المُكَوَّن من ثلاثة أرقام، والإنخفاض الشديد لقيمة العملة، والبنوك المُعَسَّرة، والانكماش الخطر في الناتج المحلي الإجمالي، وارتفاع البطالة، والنقص المتزايد في السلع الأساسية … وصفها البنك الدولي كواحدة من أسوَإِ الأزمات في التاريخ الحديث. في هذا المنعطف الحرج، يُعَدُّ اختيار حاكم البنك المركزي بالأهمية عينها لانتخاب رئيسٍ للجمهورية.

جذور الأزمة الاقتصادية في لبنان

تعودُ أسبابُ الانهيار المالي في لبنان إلى سوء الإدارة المُزمن للمالية العامة، ما أدّى إلى تراكم الديون الضخمة على الدولة في ظل الحكومات المتعاقبة منذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1990. ويلوم النقاد سلامة في هذا المجال، لأنه اتبع سياسةً نقدية عدوانية تتمثّل في إقراض الدولة اللبنانية منذ تعيينه حاكمًا لمصرف لبنان المركزي في العام 1993 – ولو لم يفعل ذلك، لما تمكّنت الحكومات اللبنانية السابقة من تمويل إنفاقها وتراكم مثل هذا الدين السيادي الهائل.

أسّسَ سلامة وحافظ على مناخٍ مُستَقِرٍّ لسعر الصرف في لبنان الذي كان مواتيًا للاستثمار الأجنبي المباشر، مدفوعًا في البداية بأجندة إعادة الإعمار في لبنان بعد الحرب التي روّجَ لها رئيس الوزراء اللبناني الراحل ورائد الأعمال الثري رفيق الحريري. ربط سلامة الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي، ما أدّى إلى دولرة العملة بشكل فعال، ونجح في ربطها بسعرٍ ثابت بلغ 1507 ليرات للدولار منذ العام 1997.

جلب ربط العملة هذا الاستقرار النقدي والاقتصادي للبنان حتى سنوات قليلة قبل الأزمة. ومع ذلك، يتفق معظم الاقتصاديين على أن ذلك يعتمد على أساسٍ اقتصادي حاسم: تدفقات ثابتة من العملات الأجنبية/الدولار إلى لبنان، والتي من شأنها أن تُعزّزَ باستمرار احتياطات البنك المركزي من العملات الأجنبية. كان هذا ضروريًا لدعم سعر الصرف في البلاد، والحفاظ على استقرار الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، والوفاء بالتزامات الديون، وجذب المستثمرين الدوليين. لحسن الحظ، شكّل الشتات اللبناني الكبير، ولا سيما الأثرياء منهم، المصدر المهيمن للعملة الأجنبية من خلال التحويلات. وشملت المصادر الأخرى الإنفاق السياحي والمساعدات الخارجية والمعاملات مع دول الخليج العربية التي عززت احتياطات مصرف لبنان.

في العام 2019، اندلعت احتجاجات حاشدة مع تفاقم الأزمة المالية في البلاد، وواجهت البنوك اللبنانية هجمة كبيرة من عمليات سحب الودائع، ما أدى إلى انهيار الثقة في القطاع المصرفي. ردًّا على ذلك، فرضت المصارف قيودًا على رأس المال، ما حدَّ بشكل كبير من عمليات سحب العملة الصعبة. إنهارَ نظامُ سعر الصرف الثابت بأكمله. واستمرت التحويلات المالية من الشتات اللبناني بالانخفاض بعدما كانت تتراجع بشكل كبير قبل الاحتجاجات، لا سيما منذ 2014 عندما خفّضَ اللبنانيون في دول الخليج تحويلات الأموال بسبب الانخفاض السريع في أسعار النفط، وخفض الوظائف والأجور، وبشكل أكثر حدة اعتبارًا من العام 2016 فصاعدًا. كما كانت هناك أسباب جيوسياسية لتسريع الأزمة المالية في لبنان، مثل الحرب الأهلية التي اندلعت في سوريا في العام 2011، والتي أثّرت في ثقة الاستثمار الأجنبي في لبنان المجاور، وسحب المملكة العربية السعودية دعمها الاقتصادي للبنان ردًا على تزايد نفوذ “حزب الله” المدعوم من إيران في البلاد.

“الهندسة المالية”

ومع ذلك، يجادل الكثيرون بأن السمة الأساسية الأخرى التي سرّعت الأزمة وعرّفت السياسة النقدية الجريئة التي اتبعها سلامة والتُقِدَت على نطاق واسع كانت ما يسمى بـ “الهندسة المالية” التي حدثت. تضمّنَ هذا المخطط التداول المتواطئ للدولار الأميركي بين الدولة والبنك المركزي والبنوك اللبنانية باستخدام معدلات فائدة مرتفعة وجناية دخل وأرباح ممتازة كحوافز اقتصادية. كان هذا، في الواقع، جُزءًا من جهدٍ أكبر لمواصلة تمويل الإنفاق العام المثير للجدل للحكومات المتعاقبة. نجح المسعى برمته لفترة طويلة لأنه كان متوافقًا هيكليًا مع سياسة ربط العملة، حيث تطلّبَ في الوقت نفسه تدفقات مستمرة من العملات الأجنبية/الدولار إلى لبنان، لا سيما الودائع في البنوك اللبنانية (والتي، كما ذكرنا سابقًا، نشأت إلى حد كبير من تحويلات المغتربين).

بعباراتٍ بسيطة، تلقت البنوك ودائع بالعملات الأجنبية بشكل أساسي من تحويلات المغتربين اللبنانيين والسياحة، والتي وضعتها في البنك المركزي في شكل شهادات إيداع لكسب دخل فائدة سخي مدعوم بسعر صرف مناسب (وإن كان مبالغًا في تقديره بشكل كبير) 1507 ليرة للدولار. في المقابل، استخدم البنك المركزي الودائع لدعم الإنفاق الحكومي، ودفع قيمة الواردات، وسداد الفوائد على الدين العام المستحق، وكذلك على الودائع بالعملات الأجنبية للبنوك. كان تحقيقُ دخلٍ جيد من الفوائد حافزًا كبيرًا لكلٍّ من العملاء الذين يضعون مدخراتهم في البنوك اللبنانية وللمصارف نفسها من طريق إقراض الدولة من خلال البنك المركزي في المقام الأول أو بشكل مباشر. هناك العديد من التفاصيل المالية المهمة والمعقدة التي تم حذفها هنا، ولكن يمكن تفسير الكثير من الترابط بهذه الطريقة البسيطة.

يَتّفقُ معظم المراقبين على أن النخبة السياسية والاقتصادية، التي أدارت وسيطرت على موارد الدولة، والبنك المركزي بقيادة سلامة (أو كما يُزعَمُ، سلامة وشركاء آخرين يخضعون أيضًا للتحقيقات في الاختلاس والإثراء غير المشروع)، والبنوك اللبنانية التي تمتلك أكثر من 50 في المئة من الدين العام للبنان، هي المستفيدة الرئيسة من مُخطط الهندسة المالية هذا. ومع ذلك، ونتيجةً لذلك، فإن المخطط زاد من إثراء وتضخيم أصول قطاع مصرفي كبير الحجم ومهيمن أصلًا في لبنان على خلفية الديون السيادية المستحقة للدولة. من خلال متابعة هذا المخطط المالي وتعزيزه باستمرار، يمكن القول إن سلامة أعطى الأولوية لحماية جاذبية البنوك المحلية على حساب الاقتصاد المحلي ونمو الناتج المحلي الإجمالي.

وتجدرُ الإشارة أيضًا إلى أنه في حين استفاد عملاء البنوك اللبنانية ومستثمرو التجزئة من دخل الفوائد الناتج عن ودائعهم، فإن مخططات سلامة للهندسة المالية أفادت في الغالب مساهمي البنوك والمودعين الأثرياء. علاوة على ذلك، فإن الورقة البحثية التي أعدها وقام بها منتدى البحوث الاقتصادية في العام 2016 حول رسم خرائط مُلكِيّة البنوك في لبنان تُسلّطُ الضوء أيضًا على حلقة مفرغة أساسية: ما يقرب من 43 في المئة من أصول القطاع المصرفي التجاري في لبنان مملوكة أو مُرتبطة بالنخب السياسية في البلاد. وكما يقول مصرفي لبناني غير تقليدي، فإن الأصول المالية للبنان خاضعة لسيطرةٍ تتجاوز بكثير ما يوصف بالنخب السياسية ولكن من قبل دولة لبنانية عميقة.

مع انخفاض التحويلات، وتراجع احتياطات العملات الأجنبية إلى مستوى خطير في العام 2016، فقد ضاعف سلامة من عمليات الهندسة المالية للبنك المركزي للحفاظ على تدفق الدولارات. لقد فعل ذلك من خلال زيادة الدخل الذي يمكن جنيه بشكل كبير من الفوائد على الودائع بالدولار من قبل البنوك التجارية، وهي أعلى بكثير من أسعار الفائدة في السوق. في الوقت نفسه، قام بزيادة قروض السندات الدولية، لكنه سعى بشكل كبير إلى إقراضٍ أكثر قوة للدولة من خلال شراء السندات الحكومية بانتظام.

الهندسة المالية لسلامة، والتي وصفها صندوق النقد الدولي بتهذيب بأنها “غير تقليدية” في ذلك الوقت، تم تشبيهها بشكلٍ أكثر ملاءمة بمخطط “بونزي” من قبل البنك الدولي في تقرير نُشِرَ في العام 2022. وأشار التقرير إلى أن ممارسات السياسة المالية كانت سوء الإدارة باستمرار من قبل الحكومة والبنك المركزي لخدمة النخبة السياسية والاقتصادية الراسخة على حساب المواطنين، بما في ذلك تكبد الدين العام الهائل للحفاظ على الثقة في النظام المالي، وعملة مبالغ في تسعيرها للحفاظ على تدفقات الودائع، واختلالات مالية كلية “ملزمة” للموازنات المالية والنقدية والمالية، واستغلال النخبة الحاكمة لموارد الدولة لتحقيق مكاسب خاصة.

على الرغم من أن البعض يلومه على محنة لبنان الحالية، إلّا أنَّ سلامة أصرَّ على أن الأزمة المالية اللبنانية ليست نتيجةً للسياسة النقدية بل نتيجةً للمأزق السياسي. واشتكى من حملةٍ سياسية تسعى إلى تقويض سجله، يخوضها بالأساس معسكر الرئيس اللبناني الأسبق ميشال عون وصهره االمثير للجدل النائب جبران باسيل. وأرجع سلامة الأزمة إلى سلسلةٍ من العوامل والطوارئ، بما في ذلك احتجاجات 2019 التي أدت إلى الإغلاق المؤقت للبنوك، وتعثّر حكومة الدكتور حسان دياب في  2020 في سداد مستحقاتها على سندات اليوروبوندز، ووباء فيروس كورونا، والانفجار الهائل في مرفَإِ بيروت، والأزمة السياسية المستمرة حول رئاسة الجمهورية. كما زعم أن الحكومة هي التي أجبرت البنك المركزي على تمويل نفقاته العامة من خلال قوانين.

من ناحية أُخرى، تساءل الكثيرون كيف يمكن أن يظل سلامة يدير البنك المركزي ولا يخضع للمساءلة في ضوء التحقيقات المتزايدة في جرائمه المالية المزعومة. للإجابة عن هذا، يشير العديد من المُحلّلين والمُعلّقين إلى دعم سلامة من قبل كبار السياسيين والنخبة الاقتصادية في البلاد، وينسبون الأمر إلى نظام المحسوبية والزبائنية في البلاد. لكن في الوقت نفسه، يتجاهل هذا السياق الاقتصادي والمالي الأوسع للبلد الحقيقة غير المريحة هي أنه بينما قام سلامة على نحو متناقض بدولرة العملة اللبنانية في فترة ولايته التي امتدت لثلاثة عقود كحاكم للبنك المركزي، لم يفعل في النهاية سوى القليل للكسر مع تاريخ البلاد في نظام مصرفي بلا منازع وغير منظم بالحد الأدنى من عدم التدخل في لبنان.

هل سينقذ صندوق النقد الدولي لبنان؟

في هذه اللحظة، يعتمد مسار الخروج من الأزمة المالية نفسها إلى حد كبير على تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي لصندوق النقد الدولي، بعد اتفاقٍ مبدئي تم التوصل إليه بين صندوق النقد الدولي والحكومة اللبنانية في نيسان (إبريل) 2022. وكجُزء من الاتفاقية، شَرطَ تنفيذ إجراءات الإصلاح، سيقدم صندوق النقد الدولي خطة إنقاذ للبنان بقيمة 3 مليارات دولار تهدف إلى استعادة الاستدامة الاقتصادية والمالية للبلاد. تتطلّب خطة إصلاح صندوق النقد الدولي في المقام الأول تنفيذ العديد من الإصلاحات المُضنية، بما فيها إعادة هيكلة البنوك التجارية في البلاد، وإلغاء تمويل البنك المركزي، وقانون ضوابط رأس المال، وتعديل قانون السرية المصرفية ليتوافق مع المعايير الدولية لمكافحة الجرائم المالية، و توحيد أسعار الصرف المتعددة لليرة اللبنانية نتيجة انهيار سعر الصرف المستقر في أعقاب الأزمة. ومع ذلك، وفقًا لبيان صندوق النقد الدولي عقب مهمة فريقه إلى لبنان في آذار (مارس)، تم إحراز تقدم محدود في تحقيق إصلاحات اقتصادية شاملة. وأشار البيان إلى عدم تحرك السلطات اللبنانية لسَنّ تشريعات وتغييرات رئيسة، فضلًا عن استمرار مجموعة من الممارسات المالية الضارة بالاقتصاد اللبناني.

قبل كل شيء، يدعو اقتراح صندوق النقد الدولي إلى توزيع خسائر القطاع المالي بين الحكومة والبنوك والمودعين الكبار بطريقة تحمي صغار المودعين مع إبقاء اللجوء إلى أصول الدولة عند الحد الأدنى. ليس من المستغرب أن يلقى هذا الاقتراح معارضة كبيرة من البنوك اللبنانية، ما ساهم في تعطيل الإصلاحات.

في الوقت الحالي، يبدو أن لبنان لا يزال عالقًا وينتظر الخلاص، سياسيًا واقتصاديًا/ماليًا. قد ينتهي الأمر بمقاضاة سلامة: ستتم محاسبته على جرائمه العديدة المزعومة، ما يشير إلى أن التغيير في متناول اليد، أم أنه بطريقة ما سينجح في الإفلات من كل ما فعله أو ما نُسِبَ إليه؟

  • راني بلوط هو محلل للمخاطر السياسية والعناية الواجبة مقيم في نيويورك وخبير في شؤون الشرق الأوسط. حاصلٌ على درجة الماجستير في الدراسات الدولية من جامعة مونتريال في كندا ودرجة البكالوريوس في اللغويات من جامعة “أبسالا” في السويد.
  • يصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “أميركان إنترِست” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى