صِدامُ حَضاراتٍ أم صِدامُ جَهالاتٍ وأُصوليّات؟

الدكتور ناصيف حتّي*

في الذكرى العشرين لهجمات ١١ ايلول (سبتمبر) 2001 في أميركا، ومع انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان وما رافق ويرافق ذلك من تساؤلات حول ما إذا كانت تلك البلاد ستعود لتُشكّل قاعدةً لتنظيم “القاعدة” وأخواته من مُنظّماتٍ وحركاتٍ إرهابية، يعود البعض إلى السؤال الذي طُرِحَ منذ ذاك الوقت بخاصة مع عَولمة الإرهاب: هل نحنُ أمام عالمٍ يَحكُمُهُ صِدامُ حضاراتٍ، حسب نظرية صامويل هانتغتون (مقالته في العام ١٩٩٣ تلاها كتابٌ له في هذا الموضوع)، يقوم على صِدامِ الجغرافيا الثقافية أو الجغرافيا الحضارية؟

حصلت هجماتُ ١١ ايلول (سبتمبر) بعد ١٢ عاماً على سقوطِ جدار برلين، الذي كرّسَ سقوطَ نظامٍ قام على صِدامِ  الجغرافيا السياسية. صِدامُ الحضارات، أو صِدامُ الهويات الثقافية، يعكس رؤيةً حتمية ونظرة اختزالية للعالم. رؤيةٌ تُقيمُ جدارَ برلين جديداً على أُسُسٍ مُختلفة. وجاءت هجمات ١١ ايلول (سبتمبر) لتُعَزِّز هذه الرؤية. ولكن حقيقةَ الأمر أنّ الحضارات لا تتصارع أو تتعاون، بل يحصل ذلك باسمها لأسبابٍ سياسية أو عقائدية من طرفِ مَن ينتمي إليها، والذي قد يدّعي للأسباب ذاتها أنه وحده يملك الحقيقة والحق بالتعبير عن مصلحة هذه الحضارة أو تلك. نحنُ في حقيقةِ الأمر في هذه الحالات أمام صراعِ جَهالاتٍ أو صراع أصولياتٍ، كما يصف ذلك أكثر من كاتبٍ ومُراقب. فالاختلاف حسب مدرسة صراع الحضارات، يعني حتمية الخلاف باعتبار أنّ “أصحابَه” يملكون الحقيقة المُطلَقة. صراعٌ يُغذّي ويَتَغذّى على موقف “الآخر” الذي يُشابهه في الرؤية والتفكير من موقعٍ مقابل. “ثقافةُ” صراع الحضارات تقوم على “رباعية” الشكّ والتبسيط والاختزال والإلغاء في نظرتها إلى الآخر المُختَلِف. بطبيعةِ الأمر تتغذّى هذه الخطابات على الأعمال الإرهابية بكافة أشكالها، وعلى السلوكيات أو خطاب الكراهية الذي يصدر عن  بعض مَن ينتمي إلى الآخر المُختَلِف في هويته، وبالطبع عبر منطق التعميم والاختزال .

إن مُحاربةَ الإرهاب ليست فقط عملاً أمنياً أو عسكرياً رُغمَ أهمية ذلك وضرورته، بل تتعدّى هذا المجال إلى ضرورة اعتمادِ مُقارَبةٍ شاملة تتناول مختلف أوجه وأبعاد الحياة في المجتمع، من السياسي إلى الثقافي، والاقتصادي، والتربوي إلى الاجتماعي. تزداد التحديات في كوننا نعيش في قريةٍ كونية وفي ظلِّ ثورة وسائل التواصل الاجتماعي وازدياد حدّة الفروقات الاقتصادية بتداعياتها المختلفة على مختلف أوجه الحياة، ضمن الدول وبين الدول والأقاليم الجغرافية. وما زاد من التحدّيات والمخاطر انتشار جائحة الكورونا وتداعياتها على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ولو اختلفت هذه التداعيات بين دولة وأخرى وإقليمٍ وآخر.

أمامَ ذلك كلّه يقوم التحدّي المطلوب التعامل معه بفاعلية ونجاح على مستويات ثلاثة متكاملة (وطني وإقليمي ودولي)، كل واحد منها يُعزّزُ الآخر، وذلك من اجل التغلّب على مَنطقِ صِدامُ الحضارات بتعبيراته المُتعدّدة وتداعياته المُختلفة والخطيرة والمُكلِفة للجميع. إن تعزيزَ مفاهيمِ وقِيَمِ وبرامجِ التنمية المشتركة (co-development) والشاملة على كافة الصُعُد يبقى المدخل الضروري لاجتثاث العوامل التي تُغذِّي الإرهاب والتطرّف بكافةِ أشكالهما. إنّه تحدٍّ ليس من السهل مواجهته بفعالية ونجاح، ولكن ليس من المستحيل والصعب القيام بذلك إذا ما توفّرت القناعة والإرادة والرؤية لذلك.

تبقى كلمةٌ أخيرة، إن الصراعَ ليس بين الحضارات بل هو صراعٌ ضمن الحضارات: هو صراعٌ بين احترامِ الاختلاف والتنوّع كمصدرٍ للغنى بكافةِ أبعادِهِ من جهة، وبين مَن يعتبرُ الاختلافَ بمثابةِ خلافٍ مُطلَقٍ ومَفتوحٍ في الزمان والمكان من جهةٍ أُخرى.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقاً المتحدث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقاً رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم للجامعة لدى منظمة اليونسكو.
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب”، (لندن)، توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار”، (بيروت).

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى