البؤسُ خيارٌ استراتيجي

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

لا يُمكنك أن تختارَ غُرفةَ ولادتك ولا كَفَّي القابلة ولا لون القماط ولا حجم الصدر الذي سيُرضِعك. وأبداً لن تتمكّن من اختيارِ لون بشرة والدك ولا دخله الشهري ولا المنزل الذي ستقضي فيه سنوات طفولتك. ويقيناً، لن تستطيع أن ترفض بؤس طفولتك أو رقّة حال أسرتك أو فقر الجوار أو قسوة الوالدين والرفاق. لكنك حين تكبر، سيكون باستطاعتك أن تُراوِغَ بؤسك لتصنع من خيوطه المُلتَفّة حول معصمَيك شالاً تتدفّأ به في ليالي واقعك الباردة، أو أن تحكم تلافيفه حول خصرك وساعديك، حتى تصل إلى عنقك وتموت اختناقاً من دون أن تَجِدَ مَن يَترَحّم عليك أو يسير في جنازتك.

فوق الموقد عينه، وفي الوعاء نفسه، نشأ الكاتب والروائي الفرنسي “أونوريه دي بلزاك” (1799- 1850) والشاعر والأديب المصري عبد الحميد الديب (1898- 1943). لم يجد المُبدعان وجهاً يبتسم لقدومهما، ولا يداً تحنو على طفولتهما البائسة. ومن رحم المُعاناة والفقر تخرّج مُبدعان قلّ أن تجود الحياة بمثلهما، سقط أحدهما في حجر أسرة ريفية في إحدى ضواحي باريس؛ أما الآخر، فقد حلَّ وهناً على وهنٍ على أسرة كشميشية فقيرة في محافظة المنوفية بمصر. لكن بعد المشرقين بين المعذبين لم يمنعهما من تقاسم وجبة البؤس على جانبي الخارطة. بيد أن تعامل المُبدعَين مع واقعهما المزري كان مختلفاً تماماً، مما كان له أعظم الأثر على نتاجهما الفكري وأثرهما الأدبي، وفي هذا المقال سأحاول أن أتتبع مسار بؤسهما لأُظهِر كيف نجا الأول مما سقط فيه الآخر، ودور كل منهما في ما آلَ إليه مصيره.

في أسرةٍ لم تُرحّب أبداً بقدومه، حلّ “أونوريه دي بلزاك” ضيفاً على هذا العالم في العشرين من أيار (مايو) 1799. وفور ولادته، أسلمته أمه لحاضنة بليدة أربع سنوات كاملة، وحين أتمّ السادسة، أرسلته إلى مدرسة داخلية حتى لا تتحمّل عبء تربيته. وقد كتب بلزاك بمرارة عن قسوة والدته يقول، “لم أحظَ بأمٍّ أبداً”. لكن قسوة والدته لم تكن حكراً عليه وحده، فقد عانت أختاه من قسوة الأم ما عانى وأكثر. هكذا، وجد بلزاك مُبرِّراً منطقياً للهروب من بركة طفولة قذرة إلى مستنقع شباب لم يكن أقل كدراً.

لم يستقر بلزاك الشاب في مكانٍ بسبب عدم قدرته على الوفاء بديونه، فكان يتنقّل من مكانٍ إلى مكان تُرعبه الطَرقة، ويُخيفه وقع الأقدام، حتى استقر في شقّةٍ تحت اسم مُستعار، لا يزوره فيها أصدقاؤه إلّا خفية ولا يسمح لهم بالدخول إلا بكلمة سر اتفقوا عليها في ما بينهم. لكنه استطاع رُغم ضيق حاله ومرارة واقعه أن يجلس إلى طاولة الكتابة من الثانية عشرة ليلاً حتى الثامنة صباحاً، ليُخصّص ربع الساعة لتناول الفطور، ثم يكمل الكتابة حتى الخامسة بعد الظهر، فيتناول طعام العشاء وينام حتى صباح اليوم التالي.

وهكذا، تحوّل بلزاك من شاب يُطارده الدائنون إلى رائدٍ للواقعية في الأدب الأوروبي، وأديباً يُشار إليه بالبنان بعد أن خلّف أكثر من أربع وتسعين مؤلفاً خالداً أثرى بها حياة البشرية كلها، وبعد أن رسم بانوراما تاريخية لفرنسا في القرن التاسع عشر عبر تجسيده 2,500 شخصية اجتماعية مختلفة في “الكوميديا الإنسانية”. ومن الطريف أن أحد الناشرين قد تحمّس لنشر كوميديا بلزاك مقابل 3,000 فرانك، لكنه عندما وصل إلى الحي الذي يقيم فيه، اعتقد أن كاتباً يقيم في حي فقير كهذا لا يستحق أكثر من 2,000 فرانك. وحين صعد إلى الطابق السادس، قرر أن يعطيه ألف فرانك فقط. وحين دخل شقته، ونظر إلى أثاثه ومتاعه، أعطاه 300 فرانك فقط دون أن يعترض بلزاك، الذي اعتقد أنه مبلغاً مُجزياً وقتها.

ننتقل الآن إلى كمشيش، حيث وُلِدَ عبد الحميد الديب في تموز (يوليو) 1898 لوالدين يعرفان الفقر أباً عن جد، ويخلصان للبؤس واقعاً وخيالاً. كان أقصى ما يطمح إليه الأب أن يُرسل عبد الحميد إلى الأزهر ليصبح شيخ عمود هناك. ومن المنوفية إلى الإسكندرية انتقل العبقري الصغير، لكن الفقر لازمه هنا أيضاً، ولم يستطع الفكاك من بؤس خلّده في قصائد تفيض حزناً ومرارة في المدينة الثغر. وبعد إنهاء دراسته في معهد الإسكندرية، انتقل الديب إلى القاهرة ليلتحق بكلية دار العلوم حتى يستفيد من مكافأتها الشهرية ليعيل نفسه بعد أن رحل والداه.

لكن عبد الحميد الذي لم يألف الجد يوماً، ولم يعرف الاجتهاد أبداً، لم يُكمِل طريقاً بدأه، ولم يجد في نفسه الرغبة في إكمال دراسته حتى، فخرج للتسكّع من مقهى إلى حانة ليجالس الأدباء والصعاليك ويكتب شعراً يشكو فيه حظه العاثر وظلم الدهر وقسوة الحياة، ويُقارن نفسه بالأنبياء رُغم ذلك، حتى أسعده الحظ بلقاء سيد درويش الذي رأى فيه شاعراً مُلهَماً مغموراً يستحقّ الدعم والرعاية. لكن سقفه الدرويشي سرعان ما انهار بموت الرجل، ليعود صاحبنا إلى المقاهي والبارات مُبَعثِراً وقته وجهده فوق الأرائك والأسرّة وليكتب أشعاراً لم يكمل معظمها. صحيح أن الرجل قد تبرّأ من المُخدّر بعدما ذاقه من تجارب مريرة داخل ممرّات السجن وأروقة مستشفى الأمراض العقلية، لكن توبة صاحبنا لم تعد على الأدب بشيء يُذكَر، فظلّ تأثيره هامشياً، ولو أنه جلس إلى طاولة الكتابة كما جلس بلزاك لما ترك لنا إرثاً هزيلاً كالذي ترك، ولكانت بصمته فوق بساط الشعر على مرّ الأجيال أشدّ وأعمق.

بؤس الواقع ليس مًبرّراً أبداً للقعود يا صديقي، فالحياة لا تُعطي أحداً مجداً بالمجّان، ولا تُوزّع أنواط المجد بالتساوي على مَن يلصق فخذيه بطاولة الكتابة سبع عشرة ساعة كل اليوم، ومَن يتنقل بين الحانات والمقاهي والملاهي والمراقص ليوزّع ثمرات عمره على المخمورين والراقصات والصعاليك. ترى، هل الفرق بين بلزاك والديب مُجرَّد فرقٍ بين شخصيتين أم هو فرق شاسع بين ثقافتين؟ وهل كان من حق الديب أن يصيح مُتمرِّداً:

شكوتُ وما شكواي ضعفٌ وذلّة   فلستُ بمُستَجدٍ ولا طالباً يدا

ولكنني أفحمت ظلماً بمنطقٍ       من الدهر لم تبلغ غباوته مدى؟

  • عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يُمكن التواصل معه عبر بيرده الإلكتروني التالي: Shaer1970@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى