لبنان: إصلاحٌ أم عودةٌ الى الحرب

بقلم غسان سعادة*

يعيش اللبنانيون حاضرهم الصعب بكثيرٍ من الهواجس، حيث الحرائق، والإنفجارات، والجثث التي تُنتَشَل من البحر، ومعارك الشمال، والفقر والعوز لدى بعض الفئات، والتوزيع الإستنسابي او بيع المعونات التي أُرسِلَت للمُتضرّرين، وعدم قدرة افراد الشعب على الحصول على ودائعه لدى البنوك وشكوكه في مصيرها، والفساد والهدر والسرقات المُستَشرية في دولته وإداراتها، وجاء ما قاله الرئيس اللبناني، ميشال عون، من ”أنهم ذاهبون الى جهنم إذا لم تتألف حكومة“، ومن ثمّ اعتذار الدكتور مصطفى اديب عن تأليف الحكومة التي  كانوا ينتظرونها مُعلّقين الأمل على فرضيةٍ انها ستأتي بشيء من الإصلاح التي عملت لأجله المبادرة الفرنسية كشرطٍ مُسبَق لتقديم  المساعدات، ما زاد من قلقهم ويأسهم وإحباطهم وصعوبات حياتهم.

 قد يقول قائل إن ما قاله الرئيس اللبناني ما هو إلا صرخة واقع مؤلم نطق بها بعدما لمس ان سفينة الدولة غارقة لا مُحالة ما لم يتم قطرها الى ميناءٍ آمن، وفي هذا كانت المبادرة الفرنسية على استعداد للقيام بمهمة القطر غير أن الفرنسيين العارفين بلبنان تركوا أمر إصلاح السفينة للحكومة اللبنانية. لذلك، وبعد فشل الدكتور أديب في تأليف حكومة وتعثّر خطة الطريق الفرنسية يسأل اللبناني العاقل ما الذي يُمكن لأي حكومة لبنانية أن تفعله وهي مُنطلقة من أرضية الإنقسامات السياسية والطائفية في صفوف الشعب، والفساد واللصوصية في كافة أجهزة الدولة، وإفلاس خزينتها وانهيار اقتصادها، وتفلّت حدودها، وانتشار السلاح والمنظمات على أرضها؟ من هذا الواقع وبغض النظر عن الأسماء التي ستحملها مُكوّنات اية حكومة مقبلة من رئيس او وزراء، فإن دلائل المجريات التي واكبت محاولة الدكتور اديب في تاليف حكومة تؤكد ان أية حكومة ستأتي في ظل النظام القائم ستُولَد من لدن ذات الطبقة السياسية التي قادت لبنان الى ما هو فيه واوصلته ليُصنَّف دولياً في مصاف الدول الفاشلة، بعدما كان في ستينات القرن الفائت يتطلع الى غدٍ مُشرق ويُصنَّف دولياً بين الدول النامية. 

من الأسئلة التي تتبادر الى ذهن السائل: هل ستتمكّن أيّة حكومة من إستئصال الفساد من أجهزة الدولة ووقف السرقة واللصوصية والهدر من الخزينة العامة؟ هل ستتمكن من فرض سيادتها على الأراضي اللبنانية؟ هل ستتمكّن من جمع السلاح ووضعه في يد السلطة اللبنانية؟ هل ستكون قادرة باجهزتها المُختَرَقة والفاسدة من فرض النظام وتطبيق القانون؟ هل ستتمكّن من إصلاح القضاء الفاسد؟ أو هل سيتسنّى لها إعادة لبنان الى موقعه الطبيعي في الصف العربي؟ وهل ستتمكّن من التصدّي للوضع الإقتصادي المُتردّي وضبط عمل البنوك التجارية ومصرف لبنان؟ وهل ستكون هي مَن يضع خطاً احمر أمام القيادات السياسية أم العكس؟ وهل وهل وهل …

قبل الإجابة يقتضي التصدّي للواقع كما هو، والقول أن العقبة في تحقيق الإصلاح لا تكمن في المهمات الإصلاحية العديدة والصعبة التي ستواجهها أية حكومة، إنّما في ما سيجري بين القيادات السياسية في عملية تأليفها وما سيتبع عملية التأليف على أرض الواقع من تحاصص بين هذه القوى، إذ أن الوقائع الأخيرة تؤكد أن القوى السياسية اللبنانية أبدت تشبّثها وتمسّكها بالمحاصصة وحسابات الربح والخسارة الخاصة بها، أي في السياسات التي قادت الدولة والشعب الى الحال الراهن من فشل وتفلّت وإفلاس، وعليه فإن بقاء القوى السياسية في الحكم لتتولى مهمة الإصلاح، حتى وان اتى ذلك برعاية فرنسية أو دولية، أمرٌ على اللبنانيين رفضه وعدم القبول به رغم واقعهم الضعيف على الأرض.

آلإصلاح أصبح مَطلباً وواجباً، ولا بدّ منه ليس فقط للحصول على المساعدات بل أيضاً كمطلب شعبي لإنقاذ الشعب والوطن. وقد اثبتت الأيام الأخيرة وتجربة الرئيس ماكرون مع القيادات السياسية أنها بكليتها غير معنية بما هو خارج مصالحها الفردية، ما يوجب البحث عن حكومة تتمتّع بثقاتٍ ثلاث، الأولى ثقة الطبقة السياسية، إن هي تمكّنت من تجاوز مصالحها الفردية، والثانية ثقة الشعب اللبناني، لكي يعود ويمارس نشاطه التجاري والعملي في لبنان، والثالثة المُجتمعَين الدولي والعربي، كي تأتي المساعدات الموعودة منهما.

المبادرة الفرنسية فشلت لكونها إتجهت نحو الإتيان بحكومة تُمثّل تفاهمات القيادات السياسية، واستندت الى وعودِ شرف من هذه القيادات بأنها ستاتي بحكومة اختصاصيين وغير حزبيين أو سياسيين خلال خمسة عشر يوماً من لقائها بالرئيس ماكرون في قصر الصنوبر في بيروت، ولكن القيادات السياسية جميعها نكثت بوعودها، حسب ما صرح الرئيس ماكرون في مؤتمره الصحافي الأخير عن لبنان .

في هذا الصدد كان من اللافت أخيراً قول أحد القياديين السياسين المُتّهم بسرقة مبلغ أحد عشر مليون دولار وبضعة ملايين أخرى من الطوابع المالية عندما كان وزيراً للمال، أن ”علينا التمسّك بأحكام الدستور“. قوله هذا قول حق بغض النظر عما يرمي هو اليه منه، نعم الحل يبدأ بقبول القيادات السياسية بتشكيل حكومة اختصاصيين غير حزبيين وغير سياسيين، والإلتزام بالدستور نصاً وروحاً، حيث بموجب المادة ٦٤ منه يعود لرئيس الوزراء المُكلَّف أن يجري استشارات نيابية غير مُلزمة وأن يوقّع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها. وإنه بعد صدور مرسوم التعيين تتقدم الحكومة من مجلس النواب ببيانها الوزاري لنيل الثقة، فإما أن يمنح المجلس الحكومة ثقته، وعندها تذهب الحكومة الى العمل، وإما أن يحجبها عنها فتسقط ويُصار الى العمل على تاليف حكومة أخرى.  هذا نص الدستور الواجب العمل به. وبكلام آخر هذه هي قواعد اللعبة الديموقراطية البرلمانية الواجب الإلتزام بها، حيث الدور الاكبر فيها لا يعود لرئيس الجمهورية بل لمجلس النواب، وعلى الأخير لا على رئيس الجمهورية تقع مسؤولية مراقبة عمل الحكومة وادائها ومحاسبتها. وفي سبيل ذلك أناط الدستور بالبرلمان حق طلب عدم الثقة ومن ثم إسقاط الحكومة، (المادة ٣٧) كما ألزَمَ الحكومة و/أو الوزراء بالإستقالة عند نزع مجلس النواب الثقة عنهم (المادتان ٦٨ و٦٩). 

فعليه، إن المواطن اللبناني العاقل ليس بغافل عن الصعوبات التي ستواجهها أية حكومة، وله من ممارسات القوى السياسة في تجربتَي حسان دياب ومصطفى أديب ما يُسعفه في توقعاته إن هي شُكّلت ونالت ثقة المجلس النيابي، وعملت فعلاً للتصدّي للأوضاع الراهنة الأمنية والإقتصادية والمعيشية بالإصلاح المطلوب في كل أمر له علاقة بالدولة.

هذا الواقع يعرفه المواطن ويعيشه ويُعاني منه، وهو واعٍ  أيضاً أن الكثير من هذه الإصلاحات المطلوبة مُمكنة التحقيق وليست مستحيلة، غير أن ما ثبت أنه عصيّ، أو ربما كثير الصعوبة، لا يكمن في الإصلاحات المطلوبة بل في حسابات القيادات السياسية في الربح والخسارة، وهل ستسمح هذه الحسابات لأي حكومة ان تقوم بأي إصلاح قد يؤدي الى خسارة البعض من  إمتيازاته وسيطرته على الدولة؟ هذا هو السؤال، وفي الجواب عنه يكمن الجواب عمّا سيكون مُمكناً  للحكومة ان تفعله وما سيكون ممنوعاً عليها فعله ليتقرر في ضوء ذلك ما إذا كان اللبنانيون سيستمرون في العيش في لبنان التحاصص والجهنم، أو في لبنان الإصلاح والدولة والسيادة والقانون، أو في لبنان التنازع والقتال والحرب الاهلية التي أشار اليها الرئيس ماكرون ثلاث مرات في مؤتمره الصحافي الأخير عن لبنان.

مَن تابع مجريات تأليف الحكومة، وتفاعلات القيادات السياسية والشعب مع الأحداث، يجد أن لا مجالَ للكثير من التفاؤل، إذ أن مفتاح الحل لا يزال في أيدي القيادات السياسية التي اختارها اللبنانيون ديموقراطياً والتي ما زالوا وتكراراً ملتزمين بها رغم أنها وهُم، وبالتكافل والتضامن، المسؤولون عما وصل لبنان اليه وعن مستقبله المحفوف بالمخاطر من كل حدب وصوب.

  • غسان سعادة هو محام لبناني مُقيم في بريطانيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى