دعمُ السِلَع في لبنان… للفقراء أم لكبار التجّار والأثرياء؟

بقلم الدكتور هيكل الراعي*

سياسة دعم أسعار السلع والخدمات عرفتها دول العالم بمختلف أنظمتها السياسية والإقتصادية، وارتبطت بالتحوّلات في دور الدولة ودرجة تدخّلها في الإقتصاد. هذه السياسة تقوم على تحمّل الخزينة العامة الفارق بين كلفةِ إنتاج السلعة او الخدمة وكلفة مبيعها إلى المُستهلِكين. والهدفُ من اعتماد هذه السياسة تأمين العدالة الإجتماعية والإستقرار والأمن الإجتماعيين. دول كثيرة، بينها دولٌ غنية، عانت من سياسات الدعم، وقامت بتغيير آلياتها أو بادرت إلى إلغائها، ودولٌ أخرى، بينها لبنان، لا تزال تصرّ على اعتمادِ هذه السياسات رُغم الأخطاء الكثيرة التي ظهرت في أثناء تطبيقها. فماذا عن التجربة اللبنانية في هذا المجال؟

بعد انتهاء الحرب الأهلية، التي اندلعت في العام ١٩٧٥ بإقرار وثيقة الطائف والدستور الجديد، إنطلقت ورشة إعادة الإعمار ولكن بكلفة عالية جداً. وكان على اللبنانيين أن يدفعوا فواتير عمليات القتل والتدمير والتهجير والنهب والسرقة التي مارستها الميليشيات الطائفية، التي استفادت من تفكّك الدولة المركزية لتسطو على مداخيلها ومواردها ويُحقّق زعماؤها بفضل ذلك ثروات هائلة. وأمام المصاعب والمشاكل الإقتصادية والإجتماعية التي ظهرت، بادرت الحكومات المُتعاقبة بعد الطائف إلى اعتماد سياسة دعم سلع وخدمات مما سمح لفئات مُعَيَّنة مواجهة الأعباء المعيشية المختلفة، ولكنها بالمقابل كانت أداة نهب وسرقة بيد حفنة من السياسيين وكبار التجار وأصحاب المصارف. فما هي السلع والخدمات التي دُعِمَت؟ ومن استفاد من هذا الدعم؟

١ – أبرز السلع التي تم دعمها كانت الليرة اللبنانية، وهي سلعة تُعادل كل السلع. فمن المعروف أن العملة في لبنان كانت تتمتع، بين خمسينات القرن الماضي ومطلع ثمانيناته، بقوة مُميّزة تجاه العملات الأخرى وذلك لسببين: الأول، إمتلاك لبنان لمخزون ذهبي يصل الى ٩ ملايين و ٢٢٢ ألف أونصة كانت تؤمّن تغطية مُريحة للأوراق النقدية وبنسبة عالية عندما كان إصدار هذه الأوراق مُرتبطاً بالذهب. والثاني، قوة الإقتصاد اللبناني الذي شهد نمواً وازدهاراً نتيجة عوامل داخلية وخارجية لا مجال لتعدادها.

الحرب الأهلية (١٩٧٥-١٩٩٠) دمّرت الإقتصاد وهجّرت الكفاءات وأصابت الليرة في الصميم. فبعدما كان الدولار الأميركي يعادل فقط ليرتين ونصف الليرة في مطلع الثمانينات، وصل إلى حوالي الثلاثة آلاف مطلع التسعينات، وهذا ما دفع السلطة إلى الطلب من مصرف لبنان التدخّل في سوق القطع لتثبيت سعر صرف العملة الوطنية على سعر ١٥٠٠ ليرة مقابل الدولار الأميركي. وقد كلّف دعم سعر صرف الليرة تجاه العملات الأخرى الخزينة اللبنانية مبالغ طائلة، وأدّى إلى تراكم الدين العام الذي وصل إلى مئة مليار دولار. فمن استفاد من دعم الليرة؟

لا يخفى على أحد أن كل الطبقات والفئات الإجتماعية استفادت من دعم سعر صرف الليرة. وإذا كان الفقراء والشرائح المُنتمية إلى الطبقة الوسطى استفادوا، ولو بشكل محدود، من هذا الدعم (شراء السيارات، الخدم في المنازل، السفر للسياحة) نتيجة رفع القدرة الشرائية للرواتب والأجور، فإن الأكثر استفادة من دعم الليرة كان الأثرياء وأصحاب المصارف الذين بادروا إلى توظيف ثرواتهم والودائع الموجودة في مصارفهم في سندات الخزينة مقابل الفوائد المرتفعة والخيالية.

إن دعم الليرة الذي بدأ مطلع التسعينات واستمر إلى نهاية العام ٢٠١٩ كلّف الخزينة العامة مبالغ كبيرة جداً وشكّل أحد أسباب الإنهيار النقدي الذي نعيشه. فالعملة في كل دول العالم، ومنذ انهيار اتفاقية “بريتون وودز” في أواسط الستينات، ترتبط باقتصاد الدولة وتعكس قوته أو ضعفه، أما في لبنان فقد حافظت الليرة على سعرها تجاه العملات الأجنبية، رغم تراجع النمو الإقتصادي وتعثّر غالبية القطاعات الإنتاجية، وذلك بسبب التدخل الدائم لمصرف لبنان مُستعيناً بعائدات الإكتتاب في سندات الخزينة. لذلك من المتوقع تحرير سعر صرف الليرة في الأشهر المقبلة تنفيذاً لبنود الخطط الإصلاحية المطروحة.

٢ – السلعة الثانية التي تمّ دعمها والتي كلّفت الخزينة مبالغ تُقدَّر بحوالي ٤٠ مليار دولار أميركي هي الكهرباء. هذا القطاع المُتعثّر كان موضوع تجاذب وصراع وتحدٍ بين القوى السياسية. أُنفِقَت هذه المليارات ولم تتأمّن الكهرباء للبنانيين، فأين ذهبت؟ ومن استفاد منها؟

منذ أواسط التسعينات قررت الحكومة دعم الكهرباء بحيث تحمّلت الفارق بين كلفة إنتاج الكيلواط المرتفعة وكلفة مبيعه المُتدَنّية. كما أجبرت الخزينة على تحمّل العجز المالي الكبير الذي عانته مؤسسة كهرباء لبنان. ونتج ذلك عن الإرتفاع العالمي في أسعار النفط، وعن التوظيف العشوائي لمحاسيب السياسيين وأزلامهم في هذه المؤسسة، وعن ضعفٍ في الجباية وهدرٍ فني مُرتفع. وقد استفادت من أسعار مبيع الكهرباء المُنخفضة، وغير المتناسبة مع كلفة الإنتاج، كل مكوّنات المجتمع اللبناني، وبشكل خاص بعض المناطق والمؤسسات وحفنة من الشخصيات السياسية التي كانت تسرق الكهرباء أو تمتنع عن تسديد الفواتير المُتَوَجّبة عليها. لذلك فإن مُعالجة مشاكل هذا القطاع لن تكون فقط بإقامة معامل توليد جديدة، بل من خلال خطة متكاملة تبدأ بوقف الدعم والهدر والسرقة وصولاً إلى شراكة فعلية بين القطاعين العام والخاص في إدارته.

٣ – بعد انتفاضة ١٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٩، وفي ظل انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية نتيجة استباحة الأموال العامة من قبل أغلب مُكوّنات الطبقة السياسية والتي ترافقت مع العقوبات الأميركية لخنق تمويل “حزب الله” وبيئته، بادرت الحكومة إلى توسيع لائحة المواد والسلع الإستهلاكية التي يتم دعمها لتشمل عدداً كبيراً منها بحيث وصل العدد إلى حوالي ٣٠٠ سلعة. ثلاثٌ من هذه السلع تم دعمها بتأمين استيرادها من خلال دولار سعره حوالي ١٥٠٠ ليرة لبنانية والباقي بدولار سعره ٣٩٠٠ ليرة لبنانية. وقد تعهّدت الحكومة من خلال مصرف لبنان بتأمين الدولارات المطلوبة للتجار لفتح الإعتمادات. وكان الهدف مساعدة اللبنانيين على مواجهة مصاعب المرحلة وتأمين حاجاتهم الغذائية والمعيشية الضرورية بعدما انهارت القدرة الشرائية للرواتب والأجور. غير أن دعم هذه السلع خلال الأشهر الماضية كشف عن ثغرات كثيرة تُهدّد استمراره ويُمكن أن تؤدي إلى توقّفه، الأمر الذي ينذر بأخطار ومشاكل لا يحتاجها لبنان في هذه المرحلة المفصلية. أما أبرز الثغرات فيمكن تلخيصها في:

أ – عشوائية اختيار السلع التي وُضِعَت على لائحة الدعم والتي لا تحتاج بعضها الطبقات الفقيرة والمتوسطة المُستهدَفة من هذه العملية. ويقال أن بعض كبار التجار حقق أرباحاً طائلة من خلال استيراد بعض السلع المدعومة وإعادة تصديرها أو تهريبها إلى الخارج.
ب – شهدت المحروقات إستغلالاً فاضحاً لعملية الدعم مما كبّد الخزينة ومصرف لبنان خسائر كبيرة. فقد لجأ كبار التجار وبعض المُهرّبين المحميين سياسياً الى تخزين كميات كبيرة من المازوت في “مناطق آمنة” بهدف إعادة بيعها خلال فصل الشتاء المقبل، بأسعارٍ مُضاعَفة في حال رفع الدعم عن المحروقات، أو من خلال افتعال أزمات استيراد وتعطيش السوق. وبالإضافة الى تخزين المازوت يعمد كبار المهربين إلى نقل كميات كبيرة من البنزين المدعوم إلى سوريا لبيعها بأسعار مضاعفة. وخلال الشهر الفائت إفتُعِلَت أزمة بنزين ولجأ بعض أصحاب المحطات إلى عمليات غش واحتيال لتحقيق الثروات بدون حسيب أو رقيب.
ج – الدواء المدعوم استيراده من الخزينة العامة عبر مصرف لبنان خضع أيضاً، كما المحروقات، لعملية تخزين وإخفاء وتهريب تحقيقاً لأرباح ومكاسب غير شرعية. ومُقابل عجز المواطنين عن تخزين كميات من المازوت والبنزين، كان من السهل تخزين كميات من الأدوية في المنازل للعلاج الدائم او لمواجهة حالات طبية طارئة. وترافق تهافت المواطنين على شراء الأدوية مع عمليات تهريب لكميات منها إلى دولٍ مجاورة، ما أدّى إلى فقدان أصنافٍ كثيرة من رفوف الصيدليات (شراء الكثير من الأدوية لا يحتاج إلى وصفة طبية).
د – الطحين المدعوم منذ فترة طويلة تعرّض أيضاً من قبل أصحاب الأفران الذين استغلوا ارتفاع أسعار بعض المواد الداخلة في صناعة الرغيف للمطالبة بتعديل سعر ربطة الخبز. وإذا كان باستطاعة المواطن تخزين كمية قليلة من المحروقات والأدوية في منزله فمن الصعب جداً تخزين الرغيف الذي يستحيل رفع الدعم عنه لأن ما من مسؤول عاقل يتحمّل نتائج ذلك.

إن سياسة الدعم المُعتَمدة في لبنان تحتاج الى دراسة عميقة للأصناف المدعومة ولآليات الدعم، كما تحتاج إلى ترشيد وإعادة نظر لتخدم شرائح وفئات اجتماعية مُحدَّدة بدل أن تبقى عشوائية وفي خدمة كبار التجار والمُحتكِرين. وهذه السياسة تحتاج في المدى الطويل إلى تمويل. وهذا التمويل يأتي من مصادر ثلاثة: خزينة الدولة وهي شبه فارغة، والمساعدات الخارجية وهي شحيحة ومشروطة سياسياً، والضرائب على المداخيل والأرباح وخصوصاً من خلال إقرار الضريبة التصاعدية وهو ما يحتاج لأغلبية نيابية لا تعمل في خدمة أصحاب الإحتكارات والثروات وهي غير متوفرة. وإذا لم تبادر السلطة اللبنانية بكل مكوّناتها إلى اتخاذِ خطوات سريعة وجريئة لتنظيم عمليات الدعم، عبر زيادة الأجور وخصوصاً للشطور الدنيا منها مقابل رفع الدعم تدريجاً، فإن اللبنانيين، بغالبيتهم الساحقة، لن يتأخروا، إذا جاعوا ومرضوا وعانوا البرد، في رفع الدعم عن هذه السلطة وإسقاطها في غياهب النسيان.

  • الدكتور هيكل الراعي هو باحث وأستاذ جامعي لبناني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى