يا ثوار لبنان، هذه رسالتي لكم

بقلم الدكتور فيليب سالم*

ها قد مضت سنة كاملة على اليوم الذي رفعتم فيه شعار الثورة. لم تكن سنة أحلامكم. كانت سنة المرارة. قليلٌ من الإنتصارات. كثيرٌ من خيبات الأمل. وعلى الرغم من أنكم لم تتمَكّنوا من صنع التغيير، نرجو ان لا تنسوا أنكم حقّقتم نصراً كبيراً. لقد حدّدتم الطريق، ومشيتم الخطوة الأولى. وها قد جئت اليوم اكتب هذه الرسالة إليكم لكي يبقى لبنان صاحب “الرسالة”، ولكي تبقوا أنتم حماة هذه “الرسالة”. أنا واحدٌ منكم أيها الثوار. أنا مثلكم لقد تعمّدتُ بالألم، كما تعمّدتُ أيضاً بالفشل. إلّا أنني تعلّمتُ شيئاً مُهمّاً، شيئاً كبيراً. لقد تعلّمت ألّا أخاف الفشل وألّا أسمح له أن يجعلني إنساناً فاشلاً. هذا بعض ما تعلّمت. ورسالتي هي بعض الكلام الذي أودّ أن أقوله لكم. أقوله لأنني خائف عليكم وخائف ان تضلّ الثورة الطريق. هذه هي رسالتي.

أوّلاً. كان موت لبنان مسؤوليتنا وكذلك اليوم فقيامته هي مسؤوليتنا أيضاً. وحده التمرّد يُقيمه من موته. عدوّان يتربّصان بنا: الإحباط والخوف. عليك ان تتعلم كيف تتغلّب عليهما. إن الذين يُصابون بالإحباط يسقطون، والذين يخافون يتراجعون. فقط هؤلاء الذين يُثابرون بإصرار والذين يسيرون الى الإمام بشجاعة يصلون.

ثانياً. إن الثورة هي خيارنا الوحيد. إنها الطريق الى قيامة لبنان. يجب أن نعترف وبكل تواضع أن الحروب والمآسي التي عشناها في الماضي والإنهيار الذي نعيشه اليوم، كل ذلك، كان بسببنا نحن لا بسبب الآخرين. لم نكن، نحن اللبنانيين، على قدرٍ كافٍ من المسؤولية للحفاظ على لبنان العظيم. لقد أهملنا هذا الوطن الذي هو أيقونة الشرق كله. إن الشعوب التي لا تصنع قَدَرَها بيدها تُوفّر فرصةً للآخرين لكي يصنعوا هذا القدر لها. ونحن قد أعطينا هذه الفرصة للمصريين والفلسطينيين والسوريين واليوم للإيرانيين. لذا نحن هنا في هذا القعر العميق. لم نعِ ان هذا اللبنان هو مسؤوليتنا أولاً، ولم نعِ أن التزامنا كان يجب ان يكون بـ”لبنان أولاً”. لم نكن على قدر قضيته.

ثالثاً. لقد أُصيبت الثورة بمرضٍ عضال وهو التفكّك. لقد انقسم الثوار على بعضهم البعض. فصارت الثورة مجموعات مُختلفة تتكلّم لغاتٍ مُتعدّدة. وصار من الصعب أن تُميز بين مَن هو ثائر حقيقي ومن هو ثائر مزوّر. إن الثورة تفرض علينا رصّ الصفوف وتوحيد الثوار. تفرض علينا طرد المُزوّرين من صفوفنا. تفرض علينا التنازل عن الأنا. تفرض علينا التواضع لكي نتمكّن من أن نعمل مع بعضنا البعض كقوة واحدة.

رابعاً. تحديد قيادة تنفيذية للثورة. ليس هناك من أمل لنجاح الثورة بعدم وجود قيادة. القيادة هي التي تأخذ الثورة الى النجاح. القيادة هي كل شيء. تعالوا نُقارن دبي الى لبنان. إن لبنان يمتلك ما لم يمتلكه غيره من الأوطان. إنه يمتلك الأرض التي تتمدد بين البحر والسماء ويمتلك الإنسان المميز بصبره وعناده وقدرته على التحمّل. يمتلك الإنسان الذي صنع الرسالة، وصنع الحضارة المُميّزة في هذا الشرق. ولكن بالرغم من كل هذا، أنظر الى أين انحدر هذا اللبنان. أي قعر من الذلِّ وصل اليه. لم يكن ذلك قَدَراً. كان نتيجة لعدم وجود قيادات سياسية. أما دبي وهي الصحراء. صحراء لا تمتلك  الكثير من النفط تحت رمالها، إلّا أنها تمتلك القيادة. ولربما لا تمتلك شيئا آخراً. هذه القيادة أوصلتها الى ما هي عليه اليوم. كان هناك مَن يقول أن الثورة لا تحتاج الى قيادة ويجب أن تبقى عفوية. ولكن العفوية تأخذك الى مسافة قصيرة ثم تقف. فهي لا تأخذك الى الأهداف الكبيرة. نأمل ان نكون قد وصلنا الى اقتناعٍ راسخٍ بأن القيادة هي ضرورة لحياة الثورة.

خامساً. وعلى القيادة ان تُحدّد رؤية واضحة للثورة. إنه لمهم ان تعرف ماذا لا تريد، ولكن الأهم هو ان تعرف ماذا تريد. لقد عرفنا ما لا تريده الثورة ولكننا ما نزال نجهل ماذا تريد. أية رؤية لمستقبل لبنان. وليس كافياً ان نُحدّد الرؤية بل يجب ان نُحدّد الطريق التي تأخذنا إليها. من السهل ان نُحدّد الأهداف ولكنه من الصعب ان تحدد الطريق الذي تسلكه للوصول الى هذه الأهداف. لقد وصلنا إلى هنا بسبب الرؤية التي اعتنقتها المدرسة السياسية اللبنانية التقليدية التي حكمت لبنان منذ الإستقلال إلى يومنا هذا. والسؤال اليوم ما هي الرؤية المُغايرة التي تمتلكها الثورة للبنان الجديد؟ وما هي مُرتكزات التغيير التي تقترحها؟

سادساً. من أهم الأخطاء التي وقعت فيها الثورة هو اللجوء الى العنف. نحن ننبذ العنف بكل أشكاله، ولا نُؤمن به. نؤمن بالتمرّد اللاعنفي. التمرّد الحضاري. نؤمن بأن العنف يقتل الثورة. نحنُ أبناء حضارة تغوص جذورها في التاريخ. لذلك نطلب من الثوار أن يرتفعوا الى الحضارة. نحن نعرف جيداً أن معظم الذين جاؤوا بالعنف كانوا من خارج صفوف ثوارنا. ولكننا نطلب اليوم من ثوارنا أن ينبذوا هؤلاء وأن لا يسمحوا لهم بالتسلّل إلى صفوفهم كما نطلب منهم أيضاً موقفاً واضحاً لا ريبَ فيه ينبذون فيه العنف ويرفضونه. قد يعتقد البعض ان العنف هو ضرورة لنجاح الثورة. أما نحن فنعتقد عكس ذلك.  نحن لسنا أبناء العنف، نحن أبناء “الرسالة”.

سابعاً. يجب ان تبقى هوية الثورة هوية لبنانية. ويجب ان نرفض أي تسلل من قوى إقليمية او قوى دولية إليها. نحن لبنانيون وهذه هي مسؤوليتنا لقيامة وطننا. كذلك يجب ان تنطلق كل مبادئ الثورة من مبادئ وطنية بعيدة كل البعد من الطائفية والمذهبية والمناطقية و”الزعاماتية”. ليس لدينا أعداء بين اللبنانيين. فالذين يختلفون معنا في الرؤية هم أهلنا وليسوا أعداءنا. نحن لا نريد القتال معهم، نريد معانقتهم، وأن يعودوا الى لبنان الذي يحضننا كلنا. كفانا قتالاً وكفانا حروباً. نحن بصدد إرساء السلام لا إرساء الحرب. نحن بصدد مدّ الجسور بين كل اللبنانيين. هذه هي رسالة لبنان. مُعانقة المسيحية مع الإسلام وانصهار جميع اللبنانيين في مواطنة واحدة بغض النظر عن مذاهبهم وطوائفهم وحضاراتهم. نحن نريد قادة يأخذوننا الى السلام، الى الحضارة؛ لا قادة يأخذوننا الى الحروب والنزاعات.

ثامناً. نحن إن كنّا وحدنا سيكون من الصعب علينا أن نصل إلى كل الأهداف التي نريدها. إن لبنان في انهيار كبير وفي قعر عميق. وأن مسؤولية الثورة هي تفعيل اللبنانيين، جميع اللبنانيين، مُقيمين ومُنتشرين في العالم. فتفعيل قوى الإنتشار اللبناني لدعم الثورة في لبنان هو ضرورة كبرى لأننا بحاجة الى دعم دولي. يُخطئ من يظنّ أن لبنان بمقدوره أن يقوم بدعم أبنائه وحدهم. انه بحاجة الى دعم دولي كبير. بحاجة الى تفعيل كل الدول والمؤسسات الدولية لمساعدته.

تاسعاً. وإذا ذهبنا الى العالم نطلب منه الدعم فماذا نقول له؟ يجب ان نعرف بدقة ماذا سنقول للعالم. نحن اليوم في صدد مبادرة فرنسية ويجب ان نقبض على هذه الفرصة ونطلب انعقاد مؤتمر دولي في باريس تحضره الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية ويلتزم هذا المؤتمر بالتوصل الى الأهداف التالية.

  • وضع خطة تشبه خطة مارشال التي تبنّتها الولايات المتحدة الأميركية، بعد الحرب العالمية الثانية، في سبيل إعمار أوروبا الغربية والنهوض بها. إن لبنان يحتاج اليوم الى مشروع كهذا تُموّله الولايات المتحدة الأميركية والإتحاد الأوروبي ليقوم من الإنهيار الإقتصادي والمالي الذي هو فيه.
  • نطلب وضع لبنان تحت مظلة دولية، وبإشراف الأمم المتحدة، لمرحلة انتقالية. تُوفّر هذه المظلة السلم والاستقرار في لبنان حتى يتسنّى للبنانيين بناء لبنانهم الجديد.
  • الطلب من مجلس الامن وضع إطار جديد لحياد لبنان. إذ أن لبنان في تاريخه المعاصر كان ولا يزال فريسة لأطماع دول إقليمية للسيطرة على قراره السيادي الحر. نحن نؤمن بالحياد الفاعل الذي يصب في مصلحة لبنان العليا. هذا الحياد يتبنّى المبادئ التالية:
  • نحن لسنا على حياد بين الفلسطينيين والإسرائيليين. نحن بقوة مع حقوق الفلسطينيين في بلادهم.
  • نحن نريد ان نكون على الحياد بالنسبة الى الصراعات الإقليمية والدولية. وأن لا نسمح لأية دولة ان تخطف قرارنا اللبناني السيد الحر.
  • نحن لن نكون على حياد بين الحق والباطل سنكون دائماً مع الحق. والحق هو لبنان الحر. الحق هو لبنان السيادة.

عاشراً. وبعد ان رسمنا هذا الإطار لفلسفة الثورة ومعناها، أود ان أتوجه الى اهلنا في “حزب الله” ونقول لهم: إن لبنان الثورة هو “وطن نهائي لجميع أبنائه”. ونرجو ان تعودوا اليه. إنها فرصة تاريخية لكم. فرصة لتصبحوا ابطال السلام. وأود ان أُذكّركم انه ليس هناك في الأرض أرض غير ارضنا تكون ارضكم. إن ارضكم هي ههنا، وكل أرض خارج هذه الأرض هي ليست أرضكم. تعالوا نبني السلام معاً. تعالوا نُقيم لبنان من موته معاً.

أيها الثوار، لا تخافوا الظلمة. حدّقوا في الضوء البعيد في آخر النفق، وتقدموا نحوه. إن الضوء ينتظركم.

  • الدكتور فيليب سالم، طبيب وباحث وأستاذ ورجل دولة عالمي في طب السرطان، يعمل كمدير فخري لأبحاث السرطان في مستشفى سان لوك الأسقفية في هيوستن، وهو رئيس “مركز سالم للأورام السرطانية”.
  • صدر هذا المقال في الوقت عينه في صحيفة النهار اللبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى