الحبُّ الغائر خلْفَ الغضب الثائر

بقلم هنري زغيب*

في رسالة الروائي الفرنسي غوستاڤ فلوبير (1821-1880) إِلى صديقه وراعيه لويس بُوْيِّــيْـه (Bouilhet) في 28 حزيران/يونيو 1855 جاء: “قبل أَسابيع قالتْ لي أُمِّي عبارةً تغار منها آلهات الوحي أَلَّا يَكُنَّ اخترعْنَها: “اللهَبُ في عباراتك الغاضبة جَفَّفَ قلبَك”. وكانت أُمُّه تقصِد بها جفاف حنينه إِلى بلدته الأُمّ “رُوان” (Rouen)، غادرها سنة 1844 إِلى بلدة “كرواسّيْه” (Croisset) غيرِ البعيدة عن رُوان.

ما صحةُ هذا الكلام؟ وهل الغضبُ في الكتابة يستنفد المشاعرَ حتى ليجفّ فيها الحنين؟

أَفهم شعور الأُم حيال ولدها في بُعاده عنها أَكثر مما عن بلدته، وهو إِحساسٌ ذاتـيٌّ عاطفيٌّ، كي لا أَقول إِنه أَنانيٌّ مغلَّف بمشاعرَ امتلاكيَّةٍ من والدةٍ لا يمكن أَن تنفصم عنها أُموميًّا كي ترى إِلى وَلَدها كما يرى إِليه الآخَرون. والمشاعرُ الذاتية لا تكون غيريَّةً إِلَّا إِذا تَـمَّ هذا الانفصام في إِقليمٍ آخَرَ قُبالتَه ليكون التلقِّي كامل البُلوغ.   

هي السيرةُ الدائِمة بين الـ”أَنا” والـ”آخَر”، تَظهر في الحكْم على المشاعر حتى لتخطِئها في معظم الحالات. الحنان في القلب لا تُطفئُه فورات الغضب، ولا تُجفِّف المشاعرَ لحظاتٌ أَو مواقفُ أَو عباراتٌ متَّقِدة بلَهَب الرفض أَو الثورة أَو النضال بلوغًا إِلى هدف.

وأَكثر: قد يكون الغضبُ صدًى للحب، للحنان، للتعلُّق. حين أَثور من أَجل وطني على حكَّام وطني، لا تكونُ مشاعرُ الحب جفَّت في كياني، بل تكون هي ذاتُها مؤَجِّجَةً لهيبَ الغضب حبًّا وطني، حنانًا على شعبي، تعلُّقًا بأَرضي. هكذا يكون الحبُّ هو الدافع إِلى رفْض ما يكون حتى يَبطُل أَن يكونَ كما يكون. وهكذا حالُ الحب الكبير لدى الأَبطال والشهداء.

عبارة والدة فلوبير شبيهةٌ بمثيلاتها ممن يكونون أَو يكُنَّ في الحلقة الأَقرب إِلى الكاتب (أَو الفنان أَو المبدع عمومًا) فلا ترى فيه عيونُهم/عيونُهنَّ سوى ما يعرفون/يعرفْنَ عنه، بدون جهدٍ موضوعي لرؤْية ماذا حقَّق وأَين وصل. وكم مبدعٍ في التاريخ كانت زوجتُه (أَو أُسرتُه) أَبعدَ الناس عن إِبداعه فيما هي أَقربُ الناس إِلى شخصه.

ما المنقذ؟ الحب.

وحدَه الحبُّ هو النبع، وحدَه يَرسم الروافد، وحدَه القادرُ على ابتداع المشاعر من جديدٍ بعد كل غضبٍ أَو بُعادٍ عن حنان أَو حنين، فيعود إِلى “اختراع” عبارات جديدة، كلمات متجددة، تُـمَجِّد الحب القادر على التجدُّد والتجديد.

لا نُلْغِيَنَّ الحبَّ الغائر خلْف الغضب الثائر. الغضب لا يجفِّف القلب طالما القلبُ دائمًا يجدِّد النبض بجمال الحب.

الثورةُ في الوطن لا يندلعُ لَـهَـبُها إِلَّا من حب الوطن، كالثورة في الحب يكون لَـهَـبُـها صدى تَعلُّقٍ سكران يمحو العتمة المالحة ليُشرقَ بعدها حنانٌ كثير.

ولا بُدَّ من لَـهَـب الـمَطْهَر يَعبُرُه العاشقون كي يبْلُغوا نعمة الفردوس.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا المقال في “أَسواق العرب” تَوَازيًا مع صُدُوره في صحيفة “النهار” – بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى