الخلَف العام والخلَف الخاص

رشيد درباس*

قد أتاكَ يَعتَذِرُ    لا تسَلهُ ما الخبَرُ
(الأخطل الصغير)

اعتزل الرئيس سعد الحريري اعتزالًا مُعَلَّقًا، واعتذر اعتذارًا مُنجزًا مشفوعًا بتحمّل مسؤولية الفشل؛ ثم غادرَ قبل أن تُتاحَ لأحدٍ فرصة التبصُّر والتَّدبّر، تاركًا الحضرة السياسية كلها في ارتباك، على الرغم من خلوِّ قراره من عنصرِ المُباغتة، بعدما مُهِّدَ له بعناية على مدى شهور كي لا تخرج تداعياته عن السيطرة.

اعتذر الرجل وتذرَّع بما سمعناه منه، فكان حدثًا غير مسبوق في الحياة السياسية اللبنانية أن يُقدِمَ مَرجعٌ أساس لجمهورٍ عريض على ممارسة النقد الذاتي العلني مُخَلّفًا وراءه صدى ما قاله أبوه قُبَيل استشهاده، مُستودعًا رب العالمين هذا البلد العزيز، مغالبًا دمعة شَرَق بها فما بلَّلتِ الخدين، وهي لو تحدَّرت لما عابته في شيء، ففيها قال الرسول الأعظم للصحابي عبد الرحمن بن عوف: “يا ابن عوف إنها رحمة”.

علينا إذًا أن نتعامل مع الأمر الواقع الجديد بكثير من التنبّه، بعيدًا عن نزق أو غضب، فلا وقتَ لإطفاء غِلَّةٍ أو تفريج غيظ. لأن الندم لا ينفع واليأس لا يسوغ، وكلَّ بلبلة تزيد الغشاوة لا ينبغي لنا البتة التوقف عندها، وبخاصة إذا جاءت على صورة ردود الأفعال المريضة الصادرة عمَّن نصَّبوا أنفسهم أساتذة في السياسة والأخلاق والمناقبية، الذين فيهم قال الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري:

ولَنحنُ نعلمُ من همُ ولمن همُ       ولمن تمثَّلُ هذه الأدوارُ

هنا أسمح لنفسي أن أشهدَ بما وجدتُه عليه أثناء مقابلتي القصيرة معه يوم الأحد السابق للإثنين المعلوم. فلقد تذكّرت فيها بيت الأخطل الصغير “كلّما أَطَلْتَ له في الحديث يختصرُ”، إذ كان مليئًا بالمرارة، غير مهيَّأ أبدًا للنقاش، مكتفيًا بعبارات العتب، كاتمًا حقيقة خبره، مُحيلًا إياي إلى قراءة عينيه، حيث “لا يَكذبُ النَّظر”.

لكنَّ علينا أن نستخرج من الضُّرِّ نفعًا ومن الظلمة قبسًا. فمن قبلُ حصل ما هو أدهى وأمر، عندما فجَّروا مشروع رفيق الحريري الوطني الإنمائي بطنٍّ ونصفه من ديناميت العداء لفكرة الدولة، المشحون بأطنان الأحقاد على السلم والاستقرار والتقدم. يومذاك انتقل إلى جوار ربه صاحب المشروع عن تركة عقارية ونقدية وتجارية هائلة، تقاسمها الخلَف العام، زوجتُه والأبناء. أما المشروع فلم يكن داخلًا في التركة الشخصية على الإطلاق، بدليل ملايين المفجوعين المحزونين الذين استجابوا لشجاعة من رفضوا الهزيمة فجعلوا الاستشهاد تجديدًا للمشروع. ذلك أن العقد الذي ارتبط بموجبه رفيق الحريري مع آمال الشعب اللبناني لم يمت بموته، بل انصرفت مفاعيله إلى الخلف الخاص وهم عموم الذين آمنوا به وجدّدوا بالعزيمة والوفاء والمحبة تمسكهم ببنوده، وأبرموا مع سعد الحريري عهدًا جديدًا قائمًا على استمرار المسيرة، ذخّروه بمئات آلاف الحناجر الهاتفة والأصوات الانتخابية عربونًا متكررًا عن قبولهم به من غير أن يكون بحاجة لإبراز حصر إرث أو وصية افتراضية، فشتان بين الإرثين الخاص والعام. إنَّ الخلَف بالمعنى القانوني غيرُ الخلافة بالمعنى السياسي، والسنوات الطويلة التي تلت الاغتيال نجمت عنها أوضاع جديدة خلّفت خيبات كبرى، فاغترب حقل ساحة الشهداء عن مزروعاته البريئة النقية حين دسّوا عليه النبات الشيطاني والنترات المفخخة، ونشروا في فضائه سمومًا يحسبها الغافل ترياقًا. ورغم هذا تبقى مقاعد بيروت ملكَ عائلاتها ومؤسساتها وحاراتِها ورونقِ أسواقها، كما يبقى فضاؤها قائمًا على قبتي محمد الأمين ومار جرجس، أما ليمون صيدا فلن يحيا في شجر آخر. هذا بحد ذاته يوجب الحنكة والتبصّر، لأن الزلزال الكبير لا تعالج آثاره بكلمةٍ من هنا، وعظة من هناك، وبتنصّل من الدم المقتول على قارعة الشارع الوطني، فالقتل أحد موانع الإرث. وعلى هذا، أتوجه فورًا إلى المنصة التي تشخص إليها أبصار اللبنانيين على اختلاف مشاربهم، عنَيت تجمع رؤساء الحكومة الذي أنشىء إبّان تولي سعد الحريري رئاسة مجلس الوزراء، فكان الضمير الذي يبث النصيحة كلّما اقتضت الحاجة، وجدار الدفاع المنيع عن الثوابت الوطنية. فلما انتسب إليه الرئيس الحريري بعد خروجه، تشكل منبر مرجعي اتسعت آثاره بالاشتراك مع الرئيسين السابقين أمين الجميل وميشال سليمان بتوقيعهم جميعًا المذكرة الوطنية التي قدّمت للأمين العام للأمم المتحدة.

وعليه، إن كانت العقود العادية تُوَثَّقُ في دوائر الكُتَّاب العدول، فإن العقد السياسي يوثَّق في دائرة الوجدان العام ومصالح الناس، وهذا يوجب على رؤساء الحكومة الثلاثة التقيد بموجبات الخلف الخاص، فهم الآن كفرقة الإطفاء التي تدق أجراسها وتشرع خراطيمها وتشهر سلالمها لإطفاء الحريق قبل السؤال عمّن أضرم النار. فهؤلاء لهم حسابهم فيما بعد، أما مناط الاحتساب فهو إنقاذ الناس من اللهب المستَعِر.

لقد بيّتَ الرئيس تمام سلام أمره منذ مدة على عدم تسلم أية مسؤولية حكومية أو نيابية، وهو لا يزال في كامل لياقته الوطنية ولباقته السياسة، ونضارة وجوده في عميق المشاعر. والرئيس نجيب ميقاتي، الذي رضيَ لنفسه الارتماء إلى “لجّ الطوفان” متسلحًا بحبل قصير وباع طويل، أوتي من الصبر والحنكة والمرونة ما يجعله مطالَبًا بشكل حاسم أن يمارس دور الإنقاذ الذي ندَبَ نفسه له عند تشكيل حكومته، هو الذي تمتد علاقاته العربية والدولية في شبكة ليست ملكه بل ملك جموع الصيادين المعدمين الذين يُعَوِّلون على صيده، بدءًا من طرابلس ذات الثقل والمهابة، التي ستكون ذات عتب على من يترك حضورها ساحة للفراغ. أما الرئيس فؤاد السنيورة الذي اعتزل النيابة والوزارة، فبَقِي منخرطًا في العمل الوطني بدوام كامل كالصيدلي الذي يدأبُ على تأمين الدواء ليل نهار. وهو العازف قبل زملائه عن الترشح، لن يكون عازفًا عن الاستمرار بما بدأه. وهنا أتوقف باحترام حيال الرعاية الهادئة والرصينة من قبل سماحة المفتي الذي يمارس تأثيره، “بعيدًا على قربٍ… قريبًا على بُعدٍ”  كما قال ابن الرومي .

إن هذا المنبر مؤهل للاتساع والانفتاح على الجيل الغاضب والمجتمع المدني وللتواصل مع القوى السياسية كافة من أجل بلورة برنامج إنقاذي قائم على إصلاح الدولة بالانتماء إليها بشروطها، أي بما ينص عليه الدستور، وعلى رفض ازدواجية السلطة التي تشكل العامل الأفدح في ما وصلنا إلي، وعلى الخروج من سياسة المحاور العقيمة.

تقول القاعدة: “ما لا يدرك كله لا يترك جلّه”، فإذا تعذر إنشاء جبهة عريضة لخوض الانتخابات، كما كان في العامين 2005 و2009، فإن المعالجات المحلية الواعية والواقعية، قد تنشىء جزرًا يسهل ربطها فيما بعد بجسور التعقل والمصالح المشتركة، إذ لا قيمة على الإطلاق للنزاعات الجانبية ولفتح دفاتر الخلافات .

بعد هذا كله، وقبله، نحن ما زلنا في انحدار متمادٍ. وقد يتفاقم الأمر إذا جرى التعامل مع الرسالة الكويتية المثَلَّثة الأطراف بالمراوغة أو العجرفة. علمًا أنه من غير المنصف على الإطلاق أن تتألب علينا الظروف لإفقارنا حتى الإملاق واضطراب حبل الأمن، ما يقتضي منّا أن نخاطب الأشقاء والأصدقاء بصراحة وصدق فنقول: في حال الطوفان يحتاج الناس لكل شيء من أجل بناء السد، فليس لهم أن يفرّطوا بأي حجر أو مدماك. وصمود الشعب والمؤسسات يحتاج إلى مقويات لا إلى عقوبات، وظلم ذوى القربى أشد مضاضة.

آخر الكلام لسعد الحريري: لا يمكن أحدًا أن يعفيك من نصيبك في المسؤولية سواء في الخيارات أو الأداء. لكنك تُسْتَهَدَفُ الآن لحسن نيتك ووزنك في المعادلة ونزوعك إلى التسويات وإغضائك عن الإساءات. ولهذا حسبك أن كثيرًا من محبيك يردد مع بشارة الخوري :

“عًدْ…فَعَنْكَ يُؤنِسني      في سَمائِه القمرُ

قد وَفى بموعِدِه         حين خانت البشر”

  • رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى