محكمة دولية لم تشفِ الغليل

بقلم إبراهيم عوض*

قبل أربعِ سنوات دخلتُ مبنى المحكمة الدولية في “لاهاي”، حيث كنتُ في عداد الوفد الإعلامي الذي رافق مديرة محطة “الجديد” التلفزيونية الزميلة كرمى خياط، المدّعى عليها في حينه من قبل المحكمة بتهمة التعرّض لعملها والإساءة إليها.

عند المدخل وُضِعت منصة (ستاند) عليها صور مَن وصَفَتهم بالضالعين في اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وهم مصطفى بدر الدين (قُتل في غارة اسرائيلية في دمشق) وسليم عياش، وحسن حبيب مرعي، وحسين حسن عنيسي، وأسد حسن صبرا. وقد استوقفني وزملائي ما شاهدناه. وتساءل بعضنا: إذا كانت المحكمة قد توصلت الى هذا الإستنتاج فلماذا المُماطلة في الإعلان عنه؟!

لم نحصل على جواب يومها. وانتظرنا مع غيرنا من اللبنانيين المُتعطّشين إلى معرفة الحقيقة وإماطة اللثام عمَّن اغتال رئيس حكومة قلّ نظيره في لبنان، الشهيد رفيق الحريري، طيلة هذه السنوات منذ إنشاء المحكمة في العام 2009 حتى الأمس حين أصدرت مُطالعتها وقرارها مُبَرِّئةً الأسماء الواردة سابقاً باستثناء أحدهم، سليم عياش، الذي ألبسته وحده التهمة وسط دهشة المُتابعين الذين لم يحصلوا على شرحٍ وافٍ عن “القوة الخارقة” التي يمتلكها رجل تجعله يرتكب جريمة مُزلزِلة لا يقدر عليها سوى من امتلك العقول الجهنمية والأدوات الشيطانية القادرة على الإفلات من أجهزة المراقبة والتشويش والتعطيل.

أنا لا أوَدُّ الغوص كثيراً في ما أفضت اليه المحكمة. ولا أن أُبدي رأيي الخاص بهذا الشأن، وإن كان لديّ الكثير من التحفّظات على أدائها منذ أنشئت، والتقارير التي طلع بها المحققون الدوليون، لا سيما ديتليف ميليس الذي بلغت مخيلته حدّاً جعلته يروي أن المدعو محمد زهير الصديق شوهد جالساً على درج القصر الجمهوري في دمشق يُراقب دخول سيارة “الميتسوبيشي” التي عُبِّئت بالمتفجرات.

ما أورده هنا هو الإستشهاد بردّات فعل جمهور تيار “المستقبل”، جمهور الشهيد رفيق الحريري الوفي النقي، الذي عبّر كثير من أفراده عن خيبة أملهم مما صدر، وهو الذي لم يشفِ غليلهم ولا غليل كل فردٍ منّا، وهذا ما بدا واضحاً في تعليقات بعضهم الساخرة التي إذ سُمع أحدهم يقول بأن ” ابو كلبشة” اشطر من المحكمة، كما أن عتاة فريق الرابع عشر من آذار (السابق) أعربوا عن امتعاضهم مما حصل، وأظن أن الغالبية العظمى تابعتهُم وأصغت إلى مواقفهم.

هذا بالاختصار المفيد… ولا بأس من بعض الملاحظات التي أجد من الضرورة إيرادها توضيحاً للمشهد ليس أكثر.

حاولت المحكمة الربط بين السياسة والأمن في جريمة الإغتيال، حيث تحدثت عن علاقة متوترة سُجِّلت بين الرئيس الحريري والقيادة السورية، وكذلك مع “حزب الله” اللذين “دفعا “الى الإغتيال، فيما الوقائع تُثبت أن الود كان يجمع بين الرئيس الشهيد والأمين العام ل”حزب الله”، السيد حسن نصر الله، الذي ثمّن عالياً كلام الحريري حين أقسم بأنه يقطع يده قبل أن يُوقّع على نزع سلاح “حزب الله”. كما أن الرجل عمل جاهداً خلال عدوان اسرائيل المسمى “عناقيد الغضب” على شرعنة المقاومة، ونجح في ذلك.

أما عن العلاقة مع دمشق فهي بالتأكيد ليست “سمن وعسل 1996” على الدوام، إذ لا بدّ من خلافات في وجهات النظر إزاء هذا الموضوع أو ذاك. وهذا أكثر من طبيعي بين مسؤولَي دولتين. لكن هذه الخلافات لم تصل الى حدّ الجفاء والقطيعة. والأدلّة على ذلك كثيرة أعرض واحدة منها كنت شاهداً عليها. فبعد الإستقالة الأخيرة للرئيس الراحل وما رافقها من “قيل وقال”، زرته في دارته، وكنتُ يومها مديراً لمكتب صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية، فقال لي بالحرف: “أنا استقلت.. لكن كل همي البقاء على تفاهم مع الأخوة في سوريا”. وهذا ما نشرناه على الصفحة الأولى للجريدة المذكورة، أي قبل أيام من جريمة الإغتيال.

ملاحظة أخرى تتعلّق بالمحكمة، وأذكر هنا أن الرئيس سليم الحص، أطال الله في عمره، المشهود له برزانته وثباته، إستعان بخبيرٍ أردني في القانون الدولي (الدكتور محمد حموري) أعدّ له دراسة تُبيّن الثغرات الكثيرة في تشكيل المحكمة وعملها. وأذكر أيضاً أني شاركت في مقابلة تلفزيونية مع الزميلة مي شدياق (قبل محاولة اغتيالها) عرضتُ فيها للدراسة، فنلتُ نصيبي من النقد والتجريح.

ملاحظة ثالثة وأخيرة زوّدني بها قاضِ مشهود بعلمه. فقد أبلغني أن الغرابة في هذه المحكمة الدولية غياب المُتّهم أو المتهمين، إذ لم يسبق لأي محكمة دولية أن فعلت ذلك، على غرار ما حصل مع الرئيس الصربي السابق، سلوبودان ميلوشيفيتش، الذي جيء به عنوة ومثُل أمام المحكمة. وهذا ما شهدته أيضاً قاعة محكمة “نورُمبيرغ” الشهيرة التي مثُل فيها ضباط نازيون مُتَّهمون بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

وتخلص ملاحظة القاضي الى الإشارة إلى أن مثول المذنب، سليم عياش، إن حصل، فهذا يعني العودة الى نقطة الصفر أو الإنطلاق من جديد، وعندها تكون محاكمة عن “حق وحقيق”.

  • إبراهيم عوض هو صحافي لبناني مخضرم والمشرف العام على موقع الإنتشار اللبناني (alintichar.com).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى