غَداةُ مُؤتمرِ بغداد إلى أين نَتَّجِه؟

الدكتور ناصيف حتّي*

يبدو أن “مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة” الذي استضافه العراق في ٢٨ آب (أغسطس) الماضي والذي ضمّ، إلى جانب الدولة المُضيفة، دولاً عربية ستّ بالإضافة إلى إيران وتركيا، وكذلك بمشاركة فرنسا من خارج الإقليم الشرق أوسطي، قد أطلقَ مساراً جديداً لإقامةِ حوارٍ مُتعدّد الأشكال والصِيَغ من حيث المشاركة فيه. وقد هدف المؤتمر إلى بلورة تفاهماتِ الحدّ الأدنى المُمكن للبناء عليها لاحقاً بين الأطراف المُشاركة بصِيغاتٍ وأشكالٍ مختلفة. ولا بدّ من التذكير أن جميع الدول العربية الست المُشاركة كانت تَتَّسِمُ علاقاتها بدرجاتٍ مختلفة من التوتّر مع إيران وتركيا أو مع إحداهما.

المُشاركة الفرنسية عكست عودةً ناشطة للديبلوماسية الفرنسية على الصعيد الإقليمي من بوابتَي بيروت وبغداد، لا سيما أن هناك ترابطاً بين البوابَتَين في ملفّات عديدة. ولعبت فرنسا دوراً داعماً ومُشجِّعاً للعراق لإطلاق “مسار بغداد”. .يأتي هذا المسار الذي أطلقه مؤتمر بغداد على مفترق طرق بين مسارَين: الأوّل مسارٌ تَصعيديّ في حروبٍ مُختلفة الأشكال والأهداف من أولى ضحاياها العراق الذي تعمل قيادته على بلورةِ سياسةٍ مُتوازِنةٍ في منطقةٍ تنهشها الصراعات. منطقةٌ تعيشُ حروباً مُتعَدّدة الأشكال والأطراف. سياسةٌ مُتوازنة تقوم على نوعٍ من الحيادِ الإيجابي بين الأطراف المُتصارعة من خلال بلورةِ أفضل العلاقات مع كافة هذه الأطراف من دون أن تنحازَ لطرفٍ على حسابِ طرفٍ آخر. المسارُ الآخر، أو المسارُ البديل، هو الذي أطلقته بغداد، ويأتي تحت عنوان الحوار والتفاهم على أُسُسٍ واضحة تُعزِّزُ الإستقرار الإقليمي الذي يدفع الجميع بأشكالٍ مُختلفة ثمن غيابه.

“مسار بغداد” شهد لقاءً آخر الثلاثاء الماضي في نيويورك استضافه العراق على هامش أعمال الجمعية العامة للأُمم المتحدة بحضور أكثرية المُشاركين في مؤتمر بغداد إلى جانب أطرافٍ أُخرى. لقاءٌ جاء ليُعزّز منطق الحوار بشأن قضايا المنطقة بُغية البحث عن حلولٍ سياسية لها.

جملة من العناصر تُشجّع على المضي في هذا المسار والرهان على إمكانية النجاح في تحقيق أهدافه، حسب أصحاب الدعوة، ولو أن هذا الامر ليس بالبسيط أو بالسهل. من هذه العناصر اللقاءات السعودية-الإيرانية، التي استضافها العراق، أيّاً كان مستوى المُشاركة فيها والتي تعكس تغيّراً ما زال في بداياته يُشجّع عليه بعض التصريحات الإيجابية ولو المحدودة والمشروطة بسلوكيات معينة مطلوبة، كذلك التطبيع التدرجي التي شهدته وتشهده العلاقات التركية مع الدول العربية التي كانت على خصومة مع تركيا بعد ان تراجعت هذه الأخيرة عن مواقف إيديولوجية حادة نتجت عنها سياسات صدامية مع هذه الدول. فالتخلّي عن المواقف والخطابات الإيديولوجية في العلاقات بين الدول شرطٌ أكثر من ضروري لبداية تطبيع هذه العلاقات. من عناصر التغيير أيضاً التطبيع التدريجي بين عدد من الدول العربية وسوريا، والتي كانت في حالة عداء شديد مع دمشق، كما دلّ على ذلك أخيراً العديد من اللقاءات والاتصالات بين الأطراف المعنية وسوريا، أيّاً كانت التفسيرات لتوظيف هذه الاتصالات في اتجاهٍ أو آخر.

إنَّ رهانَ البعض على مستقبل المفاوضات النووية الأميركية-الإيرانية وانتظار هذه النتائج لتوظيفها في صراعات المنطقة لمصلحة هذا الطرف أو ذاك يعكس رؤية أقل ما يُمكن وصفها بأنها رؤيةٌ اختزالية وتبسيطية لمسائل شديدة التعقيد من حيث طبيعة وعدد العناصر التي تؤثر فيها. ألَم يحن الوقت لأهل الإقليم من عربٍ وإيرانيين وأتراك ليُبادروا كأطرافٍ معنية مباشرة بما يمسّ أمنهم القومي بالطبع، كلٌّ حسب مصالحه، للبناء على “مسار بغداد”، وهو ما يهدف إليه أساساً، في إقامة منتدى للحوار. مُنتدى يكون بمثابةِ إطارٍ للبحث في الخلافات وفي سبل تسويتها متى أمكن ذلك، أو في كيفية احتوائها ومنعها من التاثير السلبي في مجالات تعاونٍ مختلفة تحمل مصلحةً للجميع.

إن الشرطَ الأساسي لإطلاقِ مسارٍ من هذا النوع يقتضي إبقاء الاختلاف الإيديولوجي والخطاب الذي يحمله خارج إطار العلاقات بين الدول، وأن لا يُشكّلان مادة للتخاطب في ما بينها، أو لتحديد السلوكية تجاهها. السلوكية التي يُفتَرَض أن تقوم على احترامِ الاختلاف وإدارة الخلاف واحتوائه والبحث عن المصلحة المشتركة والبناء عليها عبر تعزيز منطق الدولة والترام سيادتها، على حساب المنطق الفئوي أو الإيديولوجي. فهل نذهب باتجاه بناءِ نظامٍ إقليمي جديد يقوم على القواعد والأسس التي أشرنا إليها أم نستمر في نظام الفوضى الإقليمية التي يدفع ثمنها الجميع بأشكالٍ وأوقاتٍ مُختلفة؟ لقد حان الوقت لكي نبدأ العبور إلى برِّ الأمان.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقاً المتحدث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقاً رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم للجامعة لدى منظمة اليونسكو.
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب”، (لندن)، توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار”، (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى