التحدّي الضخم للنظام السوري المُثقَل بالديون لإعادة الإعمار

جرّ الصراع الجاري في سوريا التنمية الإقتصادية والإجتماعية والبشرية في البلاد عشرات السنين إلى الوراء، راسماً تحديات مستقبلية ضخمة. ووفقاً لتقرير حديث عن تأثير الصراع المستمر منذ ست سنوات في بلاد الشام، قال صندوق النقد الدولي إن اقتصاد البلاد عاد عقوداً إلى الوراء عن مستويات ما قبل الحرب، وإن إعادة بناء رأس المال الاجتماعي والبشري في سوريا ستكون مهمة مُضنية للجميع. وذكر التقرير أن الناتج المحلي الإجمالي اليوم أقل من نصف ما كان عليه قبل إندلاع الحرب، وقد يستغرق الأمر 20 سنة أو أكثر لإعادته إلى مستوياته السابقة. وعلى الرغم من أن إقتصاد البلاد كان قبل 2011 محدوداً لجهة ضعف بيئة الأعمال وإرتفاع معدلات الفقر والبطالة، فإنه كان يشهد حالة من الإستقرار.

الرئيس بشار الأسد: لا حل له سوى التعاون مع الروس والإيرانيين

دمشق – محمد الحلبي

فيما الحرب الأهلية السورية – على الأقل من وجهة نظر دمشق – تدخل مراحلها الأخيرة، فمن المرجح أن يبدأ نظام الرئيس بشار الأسد النظر إلى أبعد من الأهداف العسكرية الضيِّقة، ويركّز أكثر على الإستقرار الإجتماعي والإقتصادي وإستمرارية الدولة التي تم قضمها والإستيلاء عليها. بعد ست سنوات من الحرب، يجد النظام السوري نفسه في وضع مالي مأسوي، غير قادر على تحويل الأموال لتلبية الإحتياجات الإنسانية وتحقيق الإستقرار. إن توسعاً أكبر لما سبق للمحللين تبسيطه على أنه “سوريا المفيدة”، من دون وسائل للصمود والحفاظ على نفسها، يُمكن أن يقود النظام السوري إما إلى مشاكل محلية – ميليشيات موالية إسمياً وعصابات إجرامية شكّلت بالفعل تحدياً للحكومة – أو إلى إعتماد أكبر على الرعاة الخارجيين والتسويات المرفقة بشأن السيادة والنفوذ. يجب على أولئك المهتمين بالإستقرار في المستقبل والهجرة والتوسع الأجنبي في سوريا أن يُولوا إهتماماً كبيراً لكيفية موازنة الأسد للقيود المالية والخطط العسكرية والطموح السيادي.

الفخ المالي

مع تحرك الفاعلين الدوليين ببطء نحو التخطيط لإعادة الإعمار في سوريا في الأشهر الأخيرة، فقد أصبح النطاق الكامل للتحدي الإقتصادي الذي يواجه دمشق واضحاً. تفيد تقارير الأمم المتحدة بأن تحصيل الإيرادات المالية الحكومية قد إنخفض بنسبة 94 في المئة تقريباً في الفترة من العام 2010 إلى العام 2015. وبالأرقام المطلقة، فإن ذلك سيزيد من أثر الحرب التراكمي لخسارة الناتج الإجمالي العام المقدر ب226 مليار دولار في 2010 – أو ما يقرب من أربع مرات الناتج الوطني الإجمالي لتلك السنة.
ومع ذلك، وعلى الرغم من ماليتها المتضخمة، فقد حدّد نظام الأسد في وقت مبكر قدرته على دعم الخدمات العامة الأساسية والإدارة كأساس لمطالبته بالسيادة الوطنية، فضلاً عن حججه الأخيرة، بكونه الفصيل الوحيد الذي لديه المؤسسات والبيروقراطية اللازمة للحكم الفعّال، حتى في الأراضي البعيدة من السيطرة الإسمية للدولة. وقد أغرق وأغدق النظام بجميع موارده للوفاء بمرتبات القطاع العام وإستمرار النفقات العسكرية. وبالتالي، فإن النظام السوري خفّض بشدة الإعانات الإسمية (على الرغم من أنها لا تزال تشكل حصة كبيرة من الموازنة) وأوقف أساساً الإستثمارات الرأسمالية (التي تبلغ الآن مجرد واحد في المئة من الناتج المحلي الإجمالي) في البنية التحتية والسلع العامة، في الوقت الذي وسّع النفقات الجارية، ولا سيما المرتبات والإستحقاقات، كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي. وفي مرات عدة، أصدرت الحكومة السورية زيادات للسيطرة على التضخم المالي المتفشي، ولكنها إضطرت إلى تعويضها من خلال تدابير مُدرّة للدخل (ضرائب وتخفيضات الدعم) التي أدت إلى إضعاف أي تأثير للزيادات لدى السوريين العاديين.
إن الإختلاف المتزايد بين قدرتها على جمع الأموال (أكبر مصدرين يمكنها الإعتماد عليها من الإيرادات الضريبية هما شركتان من شركات الاتصالات)، وتكلفة المجهود الحربي المستمر أدّى بدمشق إلى الغرق في الديون، التي تُقدّر الآن ب150 في المئة من الناتج الوطني الإجمالي. وفي العام 2015 وحده، بلغ العجز في الموازنة العامة 86.3 في المئة من مجموع النفقات. ومع سد العجز وهذه الفجوة من طريق خطوط الإئتمان الإيرانية، فإن الحكومة السورية كانت تقترض من مصرفها المركزي الأسير، مما زاد في إضعاف الليرة السورية المتداولة، والضعيفة أصلاً.

التوتر بين الضرورات القصيرة والطويلة الأجل

في غياب سلام ومصالحة مفاجئين، ومع تراجع وركود الإقتصاد، كيف يمكن للنظام السوري أن يحول دون حدوث إنهيار مالي من دون أن يعرقل بشكل أساسي مجهوده الحربي؟
قبل الحرب، إعتمد إقتصاد سوريا ومالية حكومتها العامة بشكل كبير على الصناعات التحويلية والصناعات الإستخراجية المعتمدة على رأس المال الكثيف. وفي العام 2010، كانت عائدات النفط وحدها، التي توقفت أساساً، مسؤولة عن 26 في المئة من موارد موازنة الدولة في سوريا، و6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، و37 في المئة من قيمة الصادرات. وفي العام عينه، تم إستخدام الغاز المُنتَج محلياً لتغطية 60٪ من إحتياجات سوريا من الكهرباء. وكان تدمير القطاعات ذات الرأس المال الكثيف السبب الرئيسي للمأزق المالي للنظام. بعد ست سنوات من الحرب، حلّت الزراعة محل الإستخراج والتصنيع كأكبر الأجزاء غير الخدماتية المُكوِّنة للناتج المحلي الإجمالي السوري، حيث تضاعفت من 20 في المئة إلى 39 في المئة، على الرغم من إنكماشها الذاتي بنسبة 41 في المئة. في الواقع، لقد تحولت البلاد إلى إقتصاد زراعي، عسكري، وبيروقراطي جزئياً — مع سوق سوداء رائجة.
ومع ذلك، فإن النظام لا يمكنه بسهولة تحويل الأموال من النفقات الجارية إلى إعادة بناء الصناعة. إن التكلفة التقديرية لإعادة بناء محطة توليد الكهرباء الرئيسية في حلب وحدها (مليار دولار، وفقاً للبنك الدولي) تقترب من الإيرادات الضريبية السنوية للنظام. ويمكن أن يؤدي كل خفض في الرواتب إلى خلق رد فعل عنيف وإلى زيادة عدم الإستقرار. وفي بلد يزيد فيه معدل البطالة في القطاع الخاص على 75 في المئة ومليء بالأسلحة، فإن التطبيع ليس أمراً سهلاً. وأساساً، يكافح النظام السوري مع الجريمة المتفشية، والإبتزاز، والنهب، والتهريب، حتى أن المسلحين الموالين بدأوا يفتحون على حسابهم. هذه الشبكات من أكلة لحوم البشر أصبحت في الواقع أجزاء مكونة من إقتصاد الحرب السوري. وتظهر بيانات التجارة أنه، على الرغم من إنخفاض إجمالي الصادرات بنسبة 92 في المئة، فإن حجم وقيمة النحاس والسبائك – التي نهبت عادة من المصانع والمنازل – إزدادا فعلياً خلال الحرب، حيث ذهبت كلها تقريباً إلى وجهة واحدة… إلى مصر. وقد دفعت ضغوط الحرب الأهلية السورية الدولة السورية الفاسدة أصلاً نحو فساد خاص أعمق.

تسويات – تأثير الأجانب

وفي هذا السياق، فإن التحركات الأخيرة التي قام بها نظام الأسد في الشرق تبدو منطقية خارج سَرد “الجسر البري الإيراني” المشترك. نظراً إلى الوضع المالي الضعيف للنظام والقيود المفروضة على الواردات، فإن حكومة الأسد تواجه ضغوطات صعبة لإعادة تشكيل وبناء القطاعات الأساسية للبنية التحتية السورية بأسعار رخيصة. إن إعطاء حصص في قطاعات الإقتصاد المُدَمَّرة الآن إلى أصحاب المصلحة الأجانب مقابل الإستثمار والدعم العسكري وخفض الإيرادات يعتبره النظام أفضل من التحوّل إلى المانحين الغربيين أو المُموِّلين في القطاع الخاص. على سبيل المثال، كشف إعلان صدر أخيراً أن شركة روسية حصلت على حصة 25 في المئة في قطاع النفط السوري مقابل الإستثمار في الإنتعاش والأمن وغيرهما من المجالات. وقد وُقِّعت صفقات مماثلة مع روسيا وإيران في قطاعات أخرى أيضاً، مثل حقول إستخراج الغاز أو التنقيب، أو مناجم الفوسفات، التي توجد فيها أطراف روسية وإيرانية. ومن شأن السماح بأدوار روسية وإيرانية واسعة النطاق في هذه القطاعات أن يزيد من تعزيز صادرات السلع الأولية إلى هذين البلدين، مما يدعم الوضع الضعيف للحسابات الخارجية للنظام.
كما شهد العام الماضي تحمّل داعمي النظام الأجانب بشكل متزايد عبء إلتزامات الأسد الجارية. وصار من المعروف أن الفيلق الخامس في الجيش السوري الذي تم الإعلان عنه على نطاق واسع سيُبشَأ ويُدعَم من الخزائن الروسية. والأمر الأكثر إثارة للإهتمام هو أن إيران قد حوّلت بشكل طفيف إستراتيجياتها، وهي الآن تموّل بشكل متزايد الميليشيات السورية – الوطنية الخاصة بها مباشرة. وأفادت سلسلة من الوثائق التي تم تسريبها في وقت سابق من هذا العام أن أكثر من 86,000 مواطن سوري تسجّلوا كأعضاء في ميليشيات “قوات الدفاع المحلية”، التي تغطي طهران رواتبهم – والأهم – ومدفوعات الشهداء.
ويتجاوز المشروع الأخير بشكل خاص خط رفع العبء عن كتف الأسد، وينحرف إلى مجال أضيق من النفوذ من هيكل نظام لن يستطيع أن يصبح مكتفياً إقتصادياً في غضون عقود. فبدلاً من أن تغرق في المشكلة الأكبر المتمثلة في إستقرار دويلة الأسد، فإن إيران وغيرها قد تفضل الإستثمار بشكل إنتقائي في العملاء، والبنية التحتية المفضية إلى مصالحها الوطنية الأضيق، مما يترك الجزء الأكبر من إعادة البناء للمجتمع الدولي.

وماذا بعد؟

بالنسبة إلى النظام السوري، لا توجد إجابات سهلة أو واضحة. في الأساس، يقود دمشق طموح إعادة سيادتها عبر البلاد. وفي الوقت ذاته، يجب أن توازن بين القيود والواجبات المتنافسة لتجنب ترك فراغ محلي قد يوفر للمعارضة في نهاية المطاف فرصة ثانية لتحديه بين السوريين الذين ما زالوا في الأراضي التي تسيطر عليها الحكومة.
وكالمعتاد، فإن السوريين العاديين هم الذين يتحمّلون تكلفة حرب الأسد الوحشية وهم الذين سيعانون من التكيّف الاقتصادي في نهاية المطاف. إن صمودهم، وإنضباط المجتمع الدولي في وقف المساعدات لإستقرار النظام الذي أهدر حياة شعبه وثرواته، إلى –ربما – نجاحه أن يتشبث بالسلطة، ستثبت كلها على أنها تشكل أمراً حاسماً. في نهاية المطاف، وفقاً لنموذج إقتصادي متطور للبنك الدولي، فإن الضرر الموضوعي للمدخلات الرأسمالية والإصابات البشرية لا يمثل سوى جزء عشريني (واحد من عشرين) من إنهيار الإقتصاد السوري. إن المُضاعِف الحقيقي والمُصدِّر الحقيقي للعوز الاقتصادي في سوريا هو إستمرار تدمير النسيج الإجتماعي. حتى أن الموالين أنفسهم باتوا متشككين حول ما إذا كان بشار الأسد سوف يكون قادراً على معالجة هذه القضية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى