روسيا و… سراب الغرب “المُشَتَّت”!

محمد قوّاص*

سلّطت أزمةُ أوكرانيا المِجهَرَ على طبيعةِ العلاقة المُستَجِدّة بين روسيا والمنظومة الغربية. كشفت تلك الأزمة انتهاء التساهل الروسي الذي أعقب انهيار الاتحاد السوفياتي مع “الأمر الواقع”، وسعي الرئيس فلاديمير بوتين إلى رسمِ خطوطٍ حُمرٍ حتى لو كان بالنار أو التلويح بها. لكن في المقابل كشفت الأزمة عن طبيعة هذا “الغرب” ومستويات وحدته.

في الأيّام الأولى للأزمة بدا العالم الغربي مُشَتَّتًا يتعاطى مع “الخصم” على نحوٍ ثُنائي، فتقوِّمُ كل دولة منه الموقفَ من موسكو تُبعًا لمصالحها وحساباتها الخارجية أو الداخلية. حتى أن المواقف داخل الولايات المتحدة نفسها جاءت مُتفاوتة في مستوياتها وأعطت إشاراتٍ خاطئة (وربما مقصودة) لروسيا، لكنها أعطت أيضًا إشاراتٍ مُلتَبِسة للحلفاء الغربيين، لا سيما داخل حلف شمال الأطلسي “الناتو”.

تنافست عواصمٌ كبرى، ومنها واشنطن ولندن، على التأكيد أنها لن تتدخّل مُباشرةً وعبر قوّاتها وقواها العسكرية إذا ما قامت موسكو بغزو أوكرانيا. لم يفهم المُراقبُ رسالةَ ردع، لا بل أن الأمر، الذي حيّر حتى الخبراء الروس، يمكن أن يُشجِّعَ بوتين وجنرالاته على الإقدام على المغامرة الأوكرانية.

لم يكن الغزو في عرف المنظومة الغربية احتمالًا مُحَرَّمًا يستدعي قرارًا عاجلًا. خرج الرئيس الأميركي جو بايدن يُهدِّدُ بالعقوبات وراحَ يشرحُها ويُشَرِّحها واعدًا بأن تكون مُتناسِبة مع حجم هذا الغزو في ما إذا كان شاملًا أو جُزئيًا. وحين أنهى بايدن “موّاله” كان له الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ناهرًا ومُصَحِّحًا أن ليس هناك غزوٌ حَلال وغزوٌ حرام.

إحتاجت العواصم الغربية إلى وقتٍ لاستيعابِ الأمرِ وإدراكِ جسارةِ الحدث وما يُشكّله من تهديدٍ على الأمن وعلى وجودية معنى هذا الغرب ولزوميته. وفيما كان المراقبون يتحدثون عن تشتّتِ المواقف الغربية وتصدّع وحدتها، كانت الحقيقة في مكانٍ آخر لم تغفلها عيون موسكو.

ما بين موقف ألمانيا المرن وموقف لندن المُتشدّد حسابات في التفاصيل سرعان ما تتموضع في خندقٍ واحدٍ في السياقِ الكبير. وما بين باريس وواشنطن أجنداتٌ تفترق في الأسلوب لكي تلتقي في الأهداف. وحتى موقف هنغاريا أو دول البلطيق أو الدول الاسكندنافية، فإنها إذ تكتشف خصوصياتها التاريخية والجغرافية فإنها تُظهرُ مزيدًا من القرب مما هو غربي مُتَحَصّنة به إتقاءً لشرور تبثّها روسيا الشرهة وزعيمها الطموح.

عشيّة أيّ غزو، يحقّ للغرب المُتعدِّد بطبيعته أن تتعدّد مواقفه على نحوٍ قد يُوحي بالتناقض والتخبّط. بيد أن هذه الرشاقة التي تُشبِهُ الفوضى تقومُ على ثابتٍ واحدٍ قوامه الرفض القاطع للغزو، وبالتالي جواز الاجتهاد لإنزال بوتين عن الشجرة العالية التي تسلّقها. وكان جليًّا تأمّل تطور الخط البياني في المواقف الذي يُحيلُ التعدّدَ واحدًا كلّما زادت احتمالات الغزو وارتفع غبار الاستعدادات على الحدود الأوكرانية مع روسيا وبيلاروسيا.

يُغري الحدث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بلعبِ دورٍ لافتٍ يُرَوِّجُ فيه لمكانته الجديدة في أوروبا بعد رحيل المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل. والحدث بالنسبة إلى رجلِ الإيليزيه مناسبة لن تتكرّر يُدرِجُها داخل حملته الرئاسية التي لم تُعلَن رسميًا. بوريس جونسون في بريطانيا يحتاج إلى جلبة كبرى تُسكِتُ جلبة الحفلات التي أقامها وحكومته في وقت كانت البلاد في حالة الحجر الكامل. ثم أن عقيدة الأمن التي نشرتها حكومته قبل عام جعلت من روسيا “العدو” على نحوٍ يبتعد من عقيدة بايدن في منح ذلك النعت للصين.

تكاد كل العواصم الغربية، الأوروبية المعنية جغرافيًا بأيِّ صراعٍ خصوصًا، تُدلي بدلوٍ حيويٍّ ومباشر داخل الحدث الكبير. حجيجٌ وضجيجٌ صوب موسكو وكييف للمشاركة في العرس الكبير. بدا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، المُفترَض أن مصالحَ مُشتَرَكة تجمعه مع بوتين منها الشكوى من واشنطن وبايدن، قد بات من صقور “الناتو” وعتاته. ينحاز الرجل إلى أوكرانيا مَوقفًا وتسليحًا (مُسَيَّرات “بيرقدار” الفتّاكة خصوصًا) ورفضًا لضمّ روسيا القرم وللأمر الواقع الذي فرضته موسكو في شرق البلاد.

إنقلبَ الموقفُ الغربي. دخلت صواريخ “ستينغر”، التي سببت كوابيس للقوات السوفياتية في أفغانستان، إلى أوكرانيا، وتدفّقت الصواريخ الصائدة للدبابات من كل حدب وصوب (خصوصًا صواريخ جافلين الأميركية). أقامت واشنطن جسرًا جويًا عسكريًا كثيف الإيقاع نحو كييف، وأعادت الولايات المتحدة الدفع بقوّاتها باتجاه أوروبا. بدا لبوتين أن التوتّر الذي اختلقه لدفع “الناتو” عن حدائقه السوفياتية القديمة انقلب وبات سببًا وحافزًا لعودة “الناتو” الى التموضع تحت نوافذه.

حين قصد الزعيم الروسي نظيره الصيني شي جين بينغ يسأله الدعم في بكين، أكرمه الأخير بالعقود وببيان يعترف له بحقّهِ في إبعاد “الناتو” عن حدود بلاده على منوال ما يُطالب به هو لإبعاد الغرب عن تخوم الصين وحدائقها. أعادت موسكو التشديد على سيادة الصين على تايوان العزيزة على قلب الزعيم الصيني وحزبه الحاكم، ومع ذلك لم يتغيّر موقف بكين وما زالت، حتى في هذا الضيق، لا تعترف بضم روسيا للقرم ولا تعترف بالأمر الواقع في إقليمي لوغانسك ودونيتسك ولا تُشجّع على أيِّ غزوٍ يُهدّدُ أوكرانيا.

يُراقِبُ بوتين المشهد الكبير. يستنتجُ ضعفَ أوراقه فلا يبقى له إلّا الخيار العسكري حتى لو بقي ضجيجًا شديد الصخب من دون أيِّ صدى. ولأن الصراع الدولي لا يقوم دائمًا على حسابات العقل، بل على أمزجة صنّاع القرار، فإن الانتقالَ من حافةِ الهاوية إلى الهاوية إلى التلميح بالتراجع عن خيار الغزو رهن طباع ساكن الكرملين وحده… وحدها بكين لسان حالها يقول ما قاله هارون الرشيد يومًا مُخاطبًا سحابة في سماء بغداد: “أمطري حيث شئت فخراجك لي”.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى