من إِكليل النار إِلى إِكليل الغار

بقلم هنري زغيب*

بين الكُنوز التاريخية التي أَمكنَ إِنقاذُها من حريق كاتدرائية نوتردام في ﭘـاريس: إِكليلُ الشوك المصنَّعُ بـدائرة نباتات صغيرةٍ مجموعةٍ على شكل حُزَمٍ تَربُط بينها خيوطٌ من ذهب، وهو رمزُ عذابٍ هائلٍ عاناه الذي غلَب الموتَ بالموت وانتصر على جلَّاديه برسالة المحبة.
إِكليلُ الشوك! كأَنْ لا بدَّ منه عذابًا ودمًا وآلامًا مرعبةً للانتقال من تَـرَح العذاب إِلى فَـرَح الخلاص.
وتلك الكاتدرائيةُ الـمَهيبةُ في قلب ﭘـاريس منذ قرون، هدَّدَت إِكليلَ الشوك فيها نيرانٌ لم ترحم هلَع المؤْمنين حولها في ﭘـاريس المصدومة كما في جميع أَقطار العالم وهُم يرَون حَربَتَها الشهيرةَ تتهاوى بعدما استسلمَت لوَحشية النيران.
إِكيلُ الشوك أَدمى جبينَها، وحَربةُ الجمال الساطع الشامخ انطعنَت بِـحربة النيران التــنِّــيــنِــيَّـة.
هو ذاتُه هذا الإِكليلُ أَدمى مَعالِـمَ دينيةً وتاريخيةً وأَثريةً وسياحيةً في كل العالم شرقًا وغربًا تحت حِراب الكفَرة واليوضاسيين والهولاكيين والبيلاطُسيين والداعشيين، انْهالوا على الـمَـعْـلَـم حِقدًا وتكسيرًا وتحطيمًا وتهشيمًا وإِزالةً وحقدًا أَعمَى، أَعمَى الأَبصارَ والبصائِر.
ووطني كذلك، وطني المصلوبُ على ضمائِر الشرق والغرب منذ سنواتٍ مالـحةٍ عاقَّة، هو أَيضًا يعرف نزْف إِكليل الشوك على جبينِه كُلًّا، وفردًا فردًا على جبين كلٍّ من أَبنائِه الـمُسَمَّرين على صليب الحقْد الذي يلُفُّ لبنانَ من كلِّ صوب، لأَنَّ شمسَه تُعْمي ضِعافَ البصَر وخِفافَ البصيرة فيروحُون ينهَشون سَلامَه بِـحِرابهم ويُهَشِّمون سَلامتَه بِأَكاليلَ من شوكِ الحقْد والحسَد والغِيرة، كي يُسَطِّحوا شُموخَ جباله، ويُــيَــبِّسوا كرومَ جماله، ويغتالوا نَبضةَ الحياة في شعبِه الحي فيُمسي حَبَّةَ جَمادٍ في سُبحة دولٍ توتاليتاريةٍ تتُوق شعوبُـها إِلى شمس الحرية التي لا يرونَها حتى في الـمَنام.
منذ 1975، وقبْلَها وإِبَّانها وحتى اليوم، ما زال لبنانُ يَدفع، ضريبةً عن فرادته، أَكاليلَ شوكٍ على جبينه الـمُشْمس كي ينزف دماءً تَـجعل جبينَه غُروبًا يعيش فيه الآخرون حَوله.
منذ 1975 وهو يُعاني ويُكابر ويَصبر ويُدافع ويُقاوم لأَنَّ قدَرَه أَن يظلَّ الشمسَ مهمَّا ادلهمَّت حولها الغيوم السُود، لا تطفِئها ولا تحجبُها إِلَّا إِلى حينٍ لتعودَ فتُشرقَ شمسًا لبنانيةً أَكثرَ سُطوعًا وأَبهى إِشعاعًا وأَجملَ حضورًا بفضل العقل اللبناني الـمُبدع الذي لا تُـحطِّم عبقريتَه جميعُ زعازعِ الأَرض، لأَن في شعب لبنانَ حياةً عُمرُها أَجيالٌ من الصمود والإِيمان، ولن تؤَثِّـرَ على جِذعه الطالعِ من جُذُورٍ أَلْفيَّةٍ جَدَّلها على العصور جدودٌ مُـخْلصُون لن يُهَشِّم جبينَهم شوكُ إِكليل.
وكما نجا إِكليلُ الشوك المصنَّعُ في كاتدرائية ﭘـاريس، هكذا نَجا وينجُو من إِكليل الشوك المطبَّعِ شعبُنا الجبارُ الذي كان ولا يزال وسوف يبقى أَقوى من كلِّ دولةٍ حكمَتْه، داخليًا أَو خارجيًا، لأَنَّ لبنانَ الشعب عنوانُ لبنانَ الوطن، ولبنانَ الوطن أَقوى من دولته الـمُتردِّدَة الـمُرتعشَة أَمام ضرَبات الأَحداث داخليِّها والخارجيّ، ولأَنَّ لبنانَ الشعب والوطن والإِرث والتاريخ هو الذي غلَبَ وسوف يظَلُّ يغلُب الموتَ بالحياة، وسوف يظَلُّ يُـقاوم يوضاسيّـي الداخل والخارج، وسوف يظَلُّ يَنتصرُ على جلَّاديه ويَصفعُهم بإِكليل شوكِهِم ويَرفعُ في كل فجرٍ إِكليلَ غارِه على هامة زمنِه الآتي أَبهى من كل زمَن.
وهنا عبقريةُ الوطن الذي يعرفُ كيف يَصعد من شوك الآلام إِلى ورد القيامة، وكيف يُسقِطُ إِكليل النار ويَرفعُ إِكليل الغار.

• هنري زغيب شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو الإطلاع على إنتاجه على: www.henrizoghaib.com أو www.facebook.com/poethenrizoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى