“بريكس” تَجلُبُ الدُبَّ الإثيوبي إلى كَرمِها!

كابي طبراني*

وسط ضجّةٍ كبيرة ودهشةِ البعض، وافقت مجموعة “بريكس” على توسيع عضويتها في القمّة التي عقدتها في جنوب أفريقيا في الشهر الفائت. وقد لَفَتَ المراقبون في هذه القمة بشكلٍ خاص قرار دعوة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، بالإضافة إلى مُنافِستهما التقليدية إيران، للانضمام إلى المجموعة. الأقل لفتًا لاهتمام هؤلاء المراقبين كانت التوترات التي طال أمدها بين عضوين آخرين مُعلَّقَين، مصر وإثيوبيا بشأن مشروع سد النهضة الإثيوبي الكبير، الذي أصبح في المراحل النهائية من الاكتمال. من خلال عرضِ العضوية على كلا البلدين، فقد استوعبت مجموعة “بريكس” صراعًا إقليميًا مُعَقَّدًا في وسطها، الأمر الذي أثار تساؤلات حول قدرة المجموعة وفاعليتها في تشكيل الشؤون العالمية.

لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا بعد القمة حتى عادت التوترات بين أديس أبابا والقاهرة إلى الظهور من جديد. في 10 أيلول (سبتمبر)، أي بعد ما يزيد قليلًا عن أسبوعين على القمة، أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد عن استكمال المرحلة الرابعة من ملء سد النهضة، ما أثار المزيد من الغضب في القاهرة. وتؤدي الخطوة الأحادية التي اتخذتها إثيوبيا إلى تفاقم المخاوف المصرية القائمة منذ فترة طويلة من فقدان الوصول إلى مياه النيل الحيوية، وتُسلِّطُ الضوءَ على الإخفاقات الحالية للديبلوماسية الرامية إلى حلِّ النزاع.

بَعدَ فترةٍ وجيزةٍ من دعوة البلدَين للانضمام إلى “بريكس” في قمة آب (أغسطس)، استمرّت المحادثات الثلاثية حول سَدِّ النهضة بين إثيوبيا ومصر والسودان -وهو أيضًا دولة مَصَبّ- ما أشارَ إلى زخمٍ متجدّد لحلِّ النزاع. ومع ذلك، انهارت تلك المفاوضات مرة أخرى، وكان قرارُ إثيوبيا بالمضي قدمًا في ملء السد الضخم الذي تبلغ تكلفته 4.2 مليارات دولار سببًا في خنق الآمال بالنسبة إلى تحسين الزخم الديبلوماسي.

حذّرت مصر إثيوبيا من بناءِ سَدٍّ على نهر النيل منذ السبعينيات الفائتة، بل وهدّدتها بعملٍ عسكري. لكن بناءَ سَدِّ النهضة بدأ في العام 2011، في أعقاب الثورة المصرية، وهو الآن على وشك الانتهاء. ولا يزال هناك المزيد من الأعمال التشغيلية والبنائية لم تُنَفَّذ بعد، بما في ذلك استكمال نظام إدارة المياه وتركيب المزيد من التوربينات لتوليد الكهرباء. لكن من المتوقع أن يتمَّ تشغيل السدّ بكامل طاقته بحلول العام 2024.

هذه الأخبار واعدة بالنسبة إلى إثيوبيا، حيث يُقدّمُ سَدُّ النهضة طريقةً واعدة للخروج من النقصِ المُزمن في الطاقة، إذ أنه من المعروف تاريخيًا أنَّ أكثر من نصف السكان لا يحصلون سوى على القليل من الكهرباء. ويُنظر إليه أيضًا على أنه حافزٌ لمزيدٍ من النمو الاقتصادي من خلال صادرات الطاقة المُحتَملة إلى البلدان المجاورة.

ومع ذلك، لا يمكن الإنكار أَنَّ سدَّ النهضة يُشكّلُ تحدياتٍ حادة لمصر، التي تواجه بالفعل عجزًا مائيًا ويمكن أن تعاني من ندرة المياه بحلول العام 2025، وفقًا لتقريرٍ حديث للأمم المتحدة. يمكن أن تؤثّر التغييرات الجذرية في تدفّق المياه عند المنبع سلبًا على الصحة العامة والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في البلاد، في حين أشارت دراسات علمية مختلفة، بما فيها واحدة لعلماء وكالة ناسا، إلى مخاطر حقيقية على إنتاج الغذاء في مصر.

بعد فشلها في تحقيق اختراقٍ ديبلوماسي، ركّزت القاهرة على مشاريع أخرى، مثل مشروع النهر الأخضر، لتخفيف العجز المائي لديها. ومع ذلك، فإن نهرَ النيل، الذي يوفّر 95% من مياه مصر، لا يمكن تعويضه. يُطلَقُ على مصر تقليديًا اسم “هبة النيل”، ولم تكن مصر كأمة لتوجد على الإطلاق لولا النهر، الذي يُمثّل أيضًا جُزءًا مهمًا من الهوية الوطنية والتراث الثقافي للبلاد.

مصر ليست وحدها في مواجهة مخاطر التأثير المحتمل لسد النهضة على مياه النيل. يواجه السودان أيضًا مخاطر على قطاعه الزراعي، حيث يمكن أن يعاني المزارعون السودانيون من أيِّ انقطاعٍ سريع في المياه، على الرُغم من وجود بعض الاقتراحات حول فوائد طويلة المدى، مثل تنظيم تدفّق المياه خلال الموسم الزراعي في السودان. ومع ذلك، كان آبي يتعامل بانتظام مع شخصيات عسكرية سودانية على جانبَي الصراع الداخلي في البلاد منذ اندلاعه في نيسان (أبريل)، ما عزز موقف إثيوبيا وترك مصر أكثر عزلة.

على الرُغم من بعض التقدّم في المحادثات بين الجانبين، إلّا أَّن القضايا الرئيسة مثل إطلاق المياه أثناء فترات الجفاف لا تزال بدون حل قبل الموعد النهائي في كانون الثاني (يناير) 2024 بشأن كيفية تشغيل السَدّ. وربما تكون العقبة الأكبر أمام التوصّل إلى حلٍّ نهائي هي انعدام الثقة، بما في ذلك المخاوف في القاهرة من أن إثيوبيا تريد سيطرة أحادية على تدفق نهر النيل. وفي وقتٍ سابق من هذا العام، حذّر وزير الخارجية المصري سامح شكري من أن “جميع الخيارات مفتوحة” لحلّ النزاع، مُلمِّحًا إلى أن العمل العسكري لا يزال مُحتَملًا.

يبدو أنَّ المحلّلين بشكلٍ عام واثقون من أنَّ الصراعَ المباشر غير مُرجَّح في أيِّ وقتٍ قريب. ومع ذلك، ونظرًا إلى عدم قدرة مصر وإثيوبيا على حلِّ خلافاتهما بشأن سد النهضة بشكلٍ ثنائي، فإن الوساطة الخارجية أمرٌ بالغ الأهمية. لقد تعثّرت الجهود السابقة التي بذلتها الولايات المتحدة، في حين لم تنجح المساعي الإقليمية التي يقودها الاتحاد الأفريقي في تحقيق أيِّ تقدّم، باستثناء تسهيل المزيد من الحوار. وعرضت روسيا أيضًا، مشيرةً إلى “علاقاتها الممتازة” مع البلدين، التوسّطَ في نزاع سد النهضة في الماضي، في حين حثت إثيوبيا على النظر في مطالبات مصر. ومع ذلك، فإنَّ جهودَ موسكو لم تسفر بعد عن أيِّ نتائج.

مع الموعد المُقرَّر لانضمام إثيوبيا ومصر رسميًا إلى مجموعة “بريكس” في كانون الثاني (يناير) 2024، فإنَّ الدورَ المُحتَمَل للصين في التوسّط في نزاع سد النهضة يستحقُّ الاهتمام، خصوصًا في ضوء مصلحة بكين الراسخة في ضمان نجاح المجموعة. وعلى الرغم من أن بكين كانت تأمل إلى حدٍّ كبير في تجنّبِ التورّطِ في الصراع، فقد قامت باستثمارات كبيرة في إثيوبيا، بما في ذلك البنية التحتية المرتبطة بسَدِّ النهضة. وتتراوح هذه من قروضٍ لخطوط نقل الطاقة التي تربط السد بالمجتمعات المحلية، إلى المشاركة المباشرة في بناء سد النهضة من خلال الشركات الصينية مثل “Gezhouba Group” و”Voith Hydro Shanghai”.

وقد جعلت هذه الاستثمارات الضخمة من الصعب على الصين الحفاظ على سياسة عدم التدخل التقليدية في الشؤون الأفريقية، وتجد بكين نفسها الآن تسير على حبلٍ ديبلوماسي مشدود. وفي حين أن التزاماتها المالية عزّزت مصالح إثيوبيا، فإنها توفّرُ أيضًا النفوذ. لكن أيّ ضغط علني لحلِّ النزاع قد يؤدي إلى تعقيد علاقة بكين مع أديس أبابا. وقد تكون بكين متردّدة أيضًا في السعي إلى منع إثيوبيا من إقامةٍ سدٍّ وأفعالٍ في نهر النيل لأن الصين كانت تقوم بالشيء نفسه في نهر ميكونغ على مدى العقد الماضي، الأمر الذي أثار ذعرًا كبيرًا في دول المصبّ في جنوب شرق آسيا. ومع ذلك، فإن فشل الصين في استخدام نفوذها على إثيوبيا قد يجعل مصر أكثر تهميشًا ومُعرَّضة لخطر مواجهة عواقب نقص المياه، والتي تتفاقم بسبب تأثير تغير المناخ الذي يؤدّي إلى تفاقم هذه المخاطر.

من الواضح حتى الآن أن عضوية “بريكس” المُعَلَّقة لم تكن بمثابة حافزٍ لتحسين العلاقات بين إثيوبيا ومصر. واحتمال أن يؤدي النزاع إلى خلق توترات داخل مجموعة “بريكس” يضيف مزيدًا من الأسئلة حول قدرة المجموعة على العمل بشكلٍ متماسك. وكان على مجموعة “بريكس” أصلًا أن تتغلّب على التوترات القائمة بين الصين والهند. وعلى الرغم من اتفاق التطبيع الذي توسّطت فيه الصين بين السعودية وإيران في آذار (مارس)، فإن إدراج هؤلاء المُنافِسَين التقليديين يضيف المزيد من التعقيدات إلى المجموعة. وحتى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، على الرغم من كونهما شريكتين منذ فترة طويلة في مجلس التعاون الخليجي، فإنهما تخوضان حاليًا منافسة اقتصادية لجذب المزيد من الاستثمارات في الوقت الذي تعملان على تنويع اقتصاداتهما التي تعتمد على النفط والغاز.

وقد ترى إثيوبيا ومصر في عضويتهما الجديدة في مجموعة “بريكس” فرصةً لتحسين أوضاعهما الاقتصادية الصعبة، لكن إدراجهما بدون حلٍ لنزاع سد النهضة قد يزيد من تقويض فعالية المجموعة. في نهاية المطاف، فإنَّ حلَّ النزاع حول نهر النيل سوف يتلخّص على الأرجح في تطبيق الأُطُرِ القانونية. وفي الواقع، شدّدت القاهرة على الحاجة إلى معاهدة قانونية عادلة، كما إنَّ اتهامها الأخير بأنَّ ملء إثيوبيا لسد النهضة “غير قانوني” يؤكّد هذه النقطة بشكلٍ أكبر. اعتمدت مصر تقليديًا على معاهدات الحقبة الاستعمارية البريطانية مثل اتفاقية مياه النيل لعام 1929، التي تم التصديق عليها مع السودان في العام 1959، للمطالبة بالسيطرة غير المتناسبة على النهر. وفي ظل هذا الإطار الذي عفا عليه الزمن، فمن الممكن أن يتمَحوَرَ إطارٌ مُحَدَّث حول أحكامٍ أحدث، مثل اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997 بشأن قانون الاستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية، والتي تدعو إلى الوصول العادل والمنصف إلى الأنهار المشتركة.

كانت هناك مقترحاتٌ عدّة يمكنها أن تؤدي إلى تقاسمٍ عادلٍ لموارد مياه نهر النيل، ومع ذلك فإنَّ التوصّلَ إلى اتفاقٍ قانوني مُلزِم يبني على المناقشات السابقة والمستقبلية سيكون حاسمًا لتعزيزِ أيِّ ترتيبٍ ينبثق عنها. ورُغمَ أنه ربما يكون من السابق لأوانه معرفة كيف ستؤثر عضوية مجموعة “بريكس” في النزاع، فمن المعقول الافتراض أن قدرة المجموعة على صياغةِ نتيجةٍ ديبلوماسية ستظلّ محدودة. ونتيجة لذلك، فإن عواملَ أخرى، مثل القانون الدولي، ستكون أساسية لحلِّ هذا النزاع وغيره من النزاعات بين أعضاء مجموعة “بريكس” الحاليين والمستقبليين.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى