لا تجعل في حياتك قطة

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

في وادٍ ناءٍ من زمن قصيّ، أحسَّ راهبٌ هندي بدنوِّ أجَلِه، فدعا أقرب حوارييه إلى نفسه، وأسرّ إليه بخلاصة تجاربه في الحياة: “أي بني! لا تجعل في حياتك قطة”. ثم لَفَظ آخر أنفاسه، ومات. وظل الشاب زمناً لا يفطن إلى رسالة مُعلّمه، ولا يعلم مدلولها حتى التقى ذات مصادفة بصديق شيخه، فأشركه في أمره. ولما كان العجوز يعلم عن صديقه الراحل ما لا يعلمه حواري قريب ولا صاحب بالجنب، جلس الراهب الشاب بين قدميه في خضوع ليَطّلع على تفاصيل القصة.

وكانت الحكاية تتصل بعهد قريب، في قرية غير بعيدة من موقع الحدث. هناك، قرر شابٌ أن يختلي بربه، وأن يهجر كل المشتّتات التي تَحول بينه وبين صفاء الروح من مُتعلّقات مادية ودنيوية. وذات ليلة، قرر الشاب أن يهجر مخدعه، وأن يذهب إلى البعيد للقاء ربه. فحملته قدماه إلى صحراء بلقع، لا زرع فيها ولا نساء. حط الشاب رحاله، وجمع ما تيسّر له من أعواد حطب ليُشيّد معبده الخاص بعيداً من مغريات الدنيا. ولما انتهى، رفع يديه نحو السماء طالباً العون والمدد، مُناجياً ربّه: “هربتُ من كلّ قريب، وهرعتُ إليك أيها الحبيب .. فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني”. وطوى الشاب ثيابه تحت رأسه ونام.

ولم تشرق الشمس  عدة أيام بعدها، حتى فشا أمر الشاب وانتشر، وعَلم أهل قرية قريبة بأمره، فأتوه شعثاً غبراً يتبرّكون به، ويتقرّبون بالتودد إليه من الله زلفى. ولم يكن لدى الشاب الزاهد غير ثوبين خشنين يستر بهما عظامه النحيلة. لكن فأرين كبيرين قررا أن يشاركاه مخدعه، وثيابه. وسرعان ما بدا جلد العابد البض للزائرين رغم كل محاولاته اليائسة لإخفائه. وهنا قرر أهل القرية إعانته على ما ابتلاه الله به، فأهدوه قطة تموء. وسرعان ما عاد السكون ليخيم على صومعة العابد.

لكن العابد وجد نفسه مضطراً لزيارة القرية كل صباح لجلب بعض الحليب لقطته الصغيرة. فتطوّع أحد أغنياء القرية ببقرة حلوب، يشرب العابد من لبنها ويسقي قطته. لكن هذا لم يُغنِ الراهب عن رحلته الصباحية المعتادة، ليستجدي الحشائش من الفلاحين لإطعام بقرته. وبعد أيام عدة من الرحلة المُضنية، رقّ قلب أحد الأثرياء للعابد الشاب، فأهداه جارية تُغسل ثيابه، وتُجهّز طعامه، وترعى بقرته.

وكما حدث لعابد بني إسرائيل الذي فرّ من المرأة، فأتاه الشيطان بها حتى باب صومعته، وقع الشاب في الخطيئة، وأنجب أطفالاً من الجارية، وحنث بالعهد مع الله، فأقبل على الدنيا التي منها أدبر، وانشغل بما خلقه الله له عما خلق هو من أجله. وتحوّل الزاهد القديس إلى رجل بائس يزدريه الناس ويتندرون عليه كلما مرّ بهم أو عرجت بهم الأحاديث إلى ذكره. ولم يكن ذلك الشاب إلا الراهب الفقيد.

شجرة الخلد قد تكون مجرد تفاحة معصية أو قطة تموء تحت قدمي عابد. والشيطان يُجيد غزل خيوطه حول ضحاياه من البشر، ويعلم أن المرأة طريقه الحرير الذي يقود القوافل نحو الهاوية. ولأنه تمرّس في الغواية منذ حادثة الطرد، فهو يعلم علم اليقين أن سهام اللواحظ قادرة على إخراج أصدق العباد من محراب العبودية، وأن تعرّجات جسد المرأة تفوق مفعول الخمر وسحر الملكين ببابل هاروت وماروت. ولهذا، يطوّر إبليس أسلحته الفتّاكة كل صباح، ويُضيِّق كل مساء عيون شباكه حتى لا يستطيع أن يفرّ من قبضته عابد أو زاهد كبيراً كان أو صغيراً.

“كن على حذر من النساء يا أناندا”، قالها بوذا ذات يوم حين استنصحه حواريه المُقرَّب، لأنه كان يعلم عِلم اليقين أن المرأة أشدّ أسلحة الشيطان فتكاً، وأقواها فتنة لقلوب العباد. وحذّرنا من فتنتها خير البشر، حين قال: “فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء”. كل التفاصيل تؤدي إذاً إلى المرأة. والمرأة في عرف الشيطان غِواية، يُضلّ بها العابدين، ويَختبر بها قلوب الصادقين، ليحتنك الناس أجمعين.

الرمز هنا لا يربط بين الشيطان والمرأة، فخير متاع الدنيا المرأة الصالحة كما قال الصادق الأمين، لكنه يربط بين المرأة والغواية، وشتّان بين امرأة تهدي إلى الجنة، وأخرى تُخرِجنا منها. المرأة في القصة قطة، تطرد الفئران، لتخلي بين العابد وربه، وتقم الصومعة وتغسل الثياب وترعى للشاب بقرته. لكنها في المقابل دنيا، يفر المرء منها حين يمتلك رأسه ليذهب إلى ربه لأخذ الألواح أو للتعبد في الغار. لكن الشيطان يقف لقلبك بالمرصاد، فهو يغار من خلوة العابد بربه، وتراه يسعى جاهداً إلى إفسادها بكافة الوسائل. فإن لم تكن الغواية تفاحة، فهي شجرة خلد وملك لا يبلى، أو هي قطة تموء فتطرد الجرذان لتأتي بالمرأة. والغاية في النهاية واحدة، فأي انحراف بسيط في أول خطوة، كفيل بإعادتك إلى مسقط متاهتك وغفلتك. لكنك حين تعود إلى أرض ضلالك القديم، فإنك تكون مُثقَلاً بالذنب، وقد لا يُمهِلك الأجل لتبدأ خلوة جديدة.

لهذا كان للرمز في الميثولوجيا (علم الأساطير) القديمة أهميته، وكل لبيب بالحكاية يفهم. فإياك أيها العابد أن تقتني قطة وإن أكلت الفئران ثيابك. ولا تبدأ الخطوة الأولى، وإن كانت مجرد نظرة عابرة على صفحة إنترنت، فالشيطان يعلم جيداً من أين تُؤكل الروح، ويُجيد نصب شباكه على كل الطرق المُؤدّية إلى الله. والشغف أول طريق الهلاك، فلا تأخذنّك عيناك إلى تفاحة مُحرَّمة أبداً، ولا تجرّنك قدماك خارج صومعتك إلا لضرورة مُلحّة جداً. واستَفتِ في النهاية قلبك وإن أفتاك التقدّميون وأفتوك.

  • عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يُمكن التواصل معه على البريد التالي: Shaer129@me.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى