الإستقلال مسارٌ وليس قراراً
يحتفل لبنان بعد أيام بالذكرى الخامسة والسبعين لاستقلاله. ويأتي إحتفال هذا العام في ظلّ مجموعة من الأزمات يتخبّط فيها وطن الأرز، بدءاً بالأزمة الحكومية، مروراً بالتهديدات الأمنية، وصولاً الى المشاكل المعيشية والخدماتية التي يعاني منها اللبنانيون في الكهرباء والمياه والسير… والنفايات.
بقلم د. هيكل الراعي*
يُجمع المراقبون على ان لبنان يواجه حالياً أزمة شاملة مُعقّدة ومُتشعّبة تطال وجوده كجغرافية طبيعية وبشرية وسياسية، وهو يتجه، برأي البعض، نحو انحلال عمودي يطال وحدة الدولة والمجتمع، وانحلال أفقي يتجسّد في مظاهر الفساد والإنحطاط الخلقي والسياسي، وتفشّي الآفات المختلفة الغريبة في التراث والتقاليد والعادات. ورغم المحاولات التي شهدها لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية، من أجل إعادة الوحدة الى الدولة والمجتمع، فان السؤال لا يزال مطروحاً: هل من مجال للإنقاذ ام أن الهاوية تنتظر الجميع؟ وهل سيقدر اللبنانيون على صيانة وحماية بلدهم من العواصف التي تهب على المنطقة؟
1- في مفهوم الإستقلال:
الإستقلال حدث سياسي تاريخي يهمّ جميع اللبنانيين، ليس فقط بسبب النتائج العميقة، الشاملة والمتنوّعة التي نشأت عنه، بل أيضاً لأنه لا يزال موضوعاً حيّاً، مطروحاً في مجال الصراع السياسي، كما هو مطروح في مجال تشكّل الذاكرة التاريخية السياسية.
يقول جوزيف مازيني، وهو من أبرز بناة الوحدة الإيطالية، “أنه من الخطأ تصوّر إمكانية الفصل بين الحرية والإستقلال، وتحقيق أحدهما دون الآخر”، فكيان الإستقلال لا يرتبط بالحدود الجغرافية المُعترف بها دولياً، بل بالحدود التي يرسمها أبناء الشعب من خلال إبداعاتهم وعطاءاتهم.
والإستقلال لا يعني فقط التحرّر من الجيوش الأجنبية، بل يعني أيضاً تحرير العقول من المعتقدات والأوهام الخاطئة والناقصة، والإنفتاح على الثقافات والحضارات وكلّ ما حققت البشرية خلال مسيرتها. والإستقلال لا يُمكن أن يكون حكراً على أي مكوّن من مكوّنات النسيج الإجتماعي الوطني، لأنه لا يُمكن لفئة أن تلغي فئة أخرى أو تتجاهلها. فالغبن والحرمان يولّدان إنفجارات مدمّرة. والإستقلال يقوى ويتدعّم من خلال بناء الذاكرة الجماعية المستفيدة من أحداث وتجارب الماضي كي لا يُعاد إنتاجها.
2- في مسار بناء الاستقلال:
تقوم الدولة على ثلاثة عناصر هي الأرض والشعب والمؤسسات. ولبنان الكبير، بمساحته الحالية، الذي أُعلن في العام 1920 شهد خلال القرن الماضي صراعاً حاداً على الأرض وعلى الإنتماء إلى هذه الأرض. هذا الصراع كان يتصاعد ثم يتراجع تبعاً لموازين القوى بين مكوّنات المجتمع اللبناني، والتي كانت تعكس بدورها الصراعات بين القوى والمحاور الإقليمية. وفي هذا الإطار يُمكن إيراد الوقائع الآتية:
رسم حدود لبنان
في كتابه «ريمون اده، جمهورية الضمير” (ص47)، يروي الباحث والصحافي اللبناني نقولا ناصيف ما جرى بين الوفد اللبناني الى مؤتمر الصلح الذي عُقد في باريس في 2 آب (أغسطس) 1920 (وكان من ضمنه اميل اده) ورئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو. قال إميل اده لكليمنصو “أحضرت لك الخريطة التي سبق للجيش الفرنسي أن وضعها في العام 1861 ورسم فيها حدود لبنان، ونحن نريد حدود هذه الخريطة”. ردّ كليمنصو من وراء مكتبه بأن حَمَل قلماً أحمر ومرّره على الخريطة من الناقورة على البحر في خط أفقي متعرّج صعوداً الى السلسلة الشرقية فيتجاوزها – وهو يرسم الحدود اللبنانية الجديدة – ويتوغل عميقاً الى الشرق داخل الأراضي السورية. لتوّه صرخ إميل اده بعدما لاحظ استرساله في الزيح الأحمر الطويل قائلاً: “لكنك يا سيدي الرئيس تضمّ دمشق داخل حدود لبنان”.أجابه كليمنصو: “ولمَ لا؟ خذوا دمشق”. قال إده: “لكن دمشق عاصمة سوريا”. ردّ رئيس الوزراء الفرنسي: “اذا كنتم لا تريدون دمشق، لا تأخذوها”. وأوقف قلمه على الخريطة، والتقط الخط الصاعد من السلسلة الشرقية في اتجاه البقاع الى الشمال ليرسم عنده الحدود الدولية الجديدة مع سوريا. هكذا رسمت حدود لبنان للمرة الأولى.
الشعوب والطوائف اللبنانية
أما بالنسبة الى العنصر الثاني المكوّن للدولة وهو الشعب، فإن العشائر والعائلات والطوائف اللبنانية الموجودة على هذه الأرض منذ مئات السنين، سعت الى العيش معاً مستنبطة أشكالاً من التفاهم، كانت تقوى كلما ضعف تأثير القوى الخارجية وتنهار مع ازدياد صراع هذه القوى. والتاريخ حافل بالشواهد على ذلك. فالصراعات الدموية التي شهدها جبل لبنان بين الموارنة والدروز في ظل انهيار الإمبراطورية العثمانية وصعود القوى الاوروبية الباحثة عن مراكز نفوذ في هذا الشرق، أدت الى نظام القائمقاميتين وما رافقه من حماية خارجية للطوائف حيث تبنت كل دولة طائفة. وكان نفوذ الطائفة وحصتها في السلطة يكبر كلما كبر نفوذ الدولة الحامية.
والدستور اللبناني الذي صدر في العام 1926 كرّس في نصوصه الإعتراف بالطوائف وبحقوقها المختلفة، الدينية والتربوية والشخصية، بحيث جاءت نظرة المشترع الى المجتمع السياسي اللبناني نظرة مزدوجة، فهو يتكوّن من مواطنين ومن طوائف. هذا في القانون. أما في الواقع، فقد مرّت العلاقة بين الطوائف التي تؤلف نسيج المجتمع اللبناني بمراحل خمس:
المرحلة الاولى: رفض الكيان الجديد
تمتد هذه المرحلة من تاريخ إنشاء لبنان الكبير في العام 1920 الى الإستقلال في العام 1943، ففي مقابل تحقيق المسيحيين إنتصاراً من خلال إلحاق الأقضية الاربعة بجبل لبنان، وقف المسلمون موقف الرافض للكيان الجديد مُطالبين بالإنضمام الى سوريا. وقد تكرّس موقف المسلمين هذا في ردود النخب الإسلامية على الأسئلة التي وُجّهت اليها في أثناء وضع أول دستور للبنان في العام 1926، وكذلك في مؤتمري الساحل اللذين عُقدا في العامين 1933 و1936 برئاسة سليم سلام. لكن هذا الصراع لم يلبث ان هدأ عشية الإستقلال، بعدما تمّ التفاهم بين جناحي البورجوازية التجارية اللبنانية على إقامة توازن مع غلبة مسيحية مدعومة من سلطات الإنتداب.
المرحلة الثانية: الإستقلال
في 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 1943، أقدمت حكومة رياض الصلح على مطالبة المجلس النيابي بتعديل الدستور اللبناني. شمل التعديل نقطتين: الأولى، إلغاء صلاحيات المفوّض السامي الفرنسي من الدستور، وجعل هذه الصلاحيات في يد السلطة اللبنانية؛ والنقطة الثانية، إعتبار اللغة العربية لغة البلاد الرسمية.
وفي 11 تشرين الثاني (نوفمبر)، إعتُقل رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وثلاثة من الوزراء ونائب طرابلس من قبل الأمن الفرنسي، في عملية قلّ ما أقدم محتلّ على القيام بها تجاه رموز الدولة بأسرها.
إنطلقت تظاهرات في شوارع بيروت وطرابلس وغالبية المدن اللبنانية، وحدثت مواجهات مع القوى الأمنية سقط نتيجتها كوكبة من الشهداء. وانتهت هذه الإضطرابات بالإفراج عن المعتقلين في 22 تشرين الثاني (نوفمبر)، واعتُمد هذا التاريخ عيداً للإستقلال، بينما كان البعض يطرح تاريخ 8 تشرين الثاني (نوفمبر)، وهو تاريخ تعديل الدستور، كما يقول المفكّر منح الصلح.
التمهيد للإستقلال جاء في ظلّ صراع فرنسي بريطاني على النفوذ في منطقة الشرق الأوسط، وبسلسلة من الإجتماعات واللقاءات الداخلية والخارجية. ففي حزيران (يونيو) 1942 عُقد في القاهرة إجتماع برعاية بريطانية بين بشارة الخوري (رئيس الجمهورية) ورئيس الحكومة المصرية مصطفى النحاس باشا، والرئيس السوري جميل مردم، نتجت عنه المباركة العربية الرسمية الأولى لبشارة الخوري تشجيعاً له على متابعة انتهاج سياسة تؤدّي الى استقلال لبنان بحدوده المرسومة في العام 1920. كما كان للحكم الشهابي في العراق دور في دعم هذا المسار كما يذكر الدكتور فريد الخازن في محاضرة له.
ويضيف الخازن أنه في صيف 1943 قرّر رياض الصلح نزولاً عند رغبة القادة السوريين التعاون مع بشارة الخوري لتحقيق الإستقلال. هذه التطوّرات أرست قواعد تعاون وتحالف بين الصلح والخوري في معركة الإنتخابات البرلمانية في صيف 1943.
تجدر الإشارة الى أن الجنرال البريطاني السير إدوارد سبيرز، رئيس البعثة الإنكليزية في المشرق، والذي وصل الى بيروت في كانون الثاني (يناير) 1942، كوزير بريطانيا المطلق الصلاحية لدى حكومتي سوريا ولبنان، لعب دوراً أساسياً وفاعلاً في العملية السياسية التي انتهت الى تحقيق الإستقلال. فبالإضافة الى الضغط الذي مارسه لإجراء الإنتخابات النيابية في العام 1943، والتي جاءت الى البرلمان بغالبية معارضة للفرنسيين، فإنه كان مصدر “الوحي الأكبر” للقادة اللبنانيين الساعين الى إنهاء الإنتداب الفرنسي.
وإذا كان بعض الباحثين يصرّ على أن استقلال لبنان كان صناعة لبنانية، وقام على قاعدة الإيمان المشترك بهذا الكيان، دون إهمال دور القوى الإقليمية والدولية، فإن باحثين آخرين ينظرون الى ما أُنجز على أنه صفقة مؤقتة، واتفاق لحين، وطمس لتناقضات مستحكمة جرى تأجيل انفجارها لأجل غير محدّد، أكثر منه تتويجاً لمعاناة عسيرة ونضالات قاسية استطاعت صهر الجماعات اللبنانية، في مشروع واحد أفضى الى تكريس استقلال ناجز وحقيقي.
المرحلة الثالثة: الميثاق الوطني
لم يكن مفهوم الإستقلال ومضمونه هو نفسه عند جميع اللبنانيين بمختلف مناطقهم وطوائفهم ومستوياتهم الإجتماعية والثقافية. غير أن الواقعية السياسية والتقاء المصالح أدّيا الى ما عُرف بالميثاق الوطني. هذا الميثاق الذي نتج من إتفاق لبناني إقليمي دولي كان الصيغة الوحيدة المتوفّرة للتصدّي لمشكلة الهوية الوطنية ولو مرحلياً.
لقد قام ميثاق 1943، الذي أعاد توزيع الحصص في السلطة، والولاءات الطائفية (لا للشرق ولا للغرب) على أساس وجود تعدّدية أفرقاء وجدوا أنفسهم أمام ضرورة التلاقي لوضع أسس عقد إجتماعي جديد في ما بينهم تأميناً للإستقرار وتجنّباً للنزاعات. هذا الميثاق لم يكن إتفاق قناعات راسخة كرّست وجود الدولة بقدر ما كان إلتقاء مصالح في لحظة تاريخية مُعينة وفي ظلّ ميزان قوى إقليمي ودولي، وهو حقّق مصالحة ظرفية دون أن تضمن إستقرارها، وأحداث 1958 و1975 خير دليل على ذلك.
قام الميثاق الوطني الذي وصف بأنه مجرد إتفاق إيديولوجي يضمن مصالح البورجوازية المسيحية والإسلامية على مبادىء أربعة (وردت في البيان الوزاري لحكومة الاستقلال الأولى):
المبدأ الأول: لبنان دولة ديموقراطية حرة مستقلة؛
المبدأ الثاني: لبنان لجميع بنيه على اختلاف ميولهم ومعتقداتهم؛
المبدأ الثالث: لبنان ذو وجه عربي وعضو في الأسرة العربية (أصبح لبنان عربياً بعد اتفاق الطائف)؛
المبدأ الرابع: لبنان متساو في السيادة مع الدول الأخرى وغير منحاز الى أي منها.
وقد اعتبر الرئيس بشارة الخوري ورئيس وزرائه رياض الصلح الميثاق حقيقة واحدة ذات وجهين. وهي تتلخص بمبدأين: الاول: لا للحماية الأجنبية (من قبل المسيحيين) ولا للوحدة العربية (من قبل المسلمين). الثاني: تكريس طائفية الرئاسات الثلاث.
وإذا كان “نفيان لا يصنعان أمة” على حد قول الصحافي جورج نقاش، فإن بشاره الخوري يعترف في مذكراته بإن الميثاق أصبح اسطورة يتلهى بها محترفو السياسة في “دولة الطوائف المستقلة والمتعايشة على أرض واحدة”.
هذا التعايش السلبي بين المسيحيين والمسلمين لم يلبث ان اهتز بعد قيام الثورة المصرية في العام 1952 بزعامة الرئيس جمال عبد الناصر، وتحقيق الوحدة مع سوريا في 22 شباط (فبراير) 1958، مما أيقظ حماسة دعاة الوحدة العربية بين المسلمين. وقد أدى انحياز الرئيس كميل شمعون الى حلف بغداد (المدعوم من الولايات المتحدة الأميركية والمناهض للسياسة الناصرية)، الى انفجار الوضع في لبنان صدامات دموية عنيفة، إنتهت بشعار سلبي أيضاً: “لا غالب ولا مغلوب” وتولي قائد الجيش يومها اللواء فؤاد شهاب رئاسة الجمهورية.
لقد سعت الطوائف اللبنانية، وبهدف تعزيز مواقعها في السلطة، الى الإستقواء بالخارج. ولم تكن أحداث العام 1958 حالة شاذة، بل جاءت في سياق تطور العلاقة التاريخية بين هذه الطوائف والقوى الخارجية. لقد كانت الحماية الأجنبية، ولم تزل الشغل الشاغل للطوائف اللبنانية التي تسود علاقاتها المتبادلة الريبة والحذر، بدل التطلع الى حماية سلطة شرعية وطنية واحدة تُوليها ثقتها وإخلاصها.
المرحلة الرابعة: السلاح الفلسطيني يفجّر لبنان
لقد سعى الحكم الشهابي الى بناء دولة عصرية، لكن هذا السعي إصطدم بمعوقات الواقع وسلبياته من جهة، وباستغلال فاضح للسلطة من قبل الجهاز العسكري (المكتب الثاني) من جهة أخرى، مما أفشل التجربة. وعلى أثر هزيمة الدول العربية أمام اسرائيل في العام 1967 برز العنصر الفلسطيني المسلح على الساحة اللبنانية مما أحدث زلزالاً عنيفاً في بنية السلطة وفي العلاقات بين الطوائف.
وسعى المتضررون من هذه الظاهرة الى لجمها، تارةً بالإتفاقات (إتفاق القاهرة في العام 1969) وما رافقها من تنازلات، وطوراً بصدامات تركت جراحاً عميقة. وأمام الفشل، بدأ البعض يفتش عن البدائل، خوفاً على المصير، فكانت الآلة العسكرية الميليشيوية أسوأ الخيارات لأنها حملت الخراب للوطن والإنتحار للطائفة. لقد أنعش السلاح الفلسطيني الطائفة السنية وقهر الشيعة وزرع الخوف عند المسيحيين.
وفي 13 نيسان (إبريل) 1975 إندلعت الحرب الأهلية بعد أحداث دموية شهدتها بيروت بين ميليشيات حزب الكتائب من جهة والمسلحين الفلسطنيين من جهة أخرى. وانخرطت في المواجهات التي امتدت لسنوات كل الأحزاب والقوى السياسية والطوائف اللبنانية، فلم تنجُ منطقة من المعارك المتنقلة التي زرعت الخراب والدمار في كل انحاء البلاد. وفي حزيران (يونيو) من العام 1976 دخلت القوات العربية السورية الى لبنان لفك الحصار الفلسطيني عن قرى وبلدات مسيحية وذلك بناء على طلب القيادات المسيحية وبموافقة ضمنية من الولايات المتحدة الاميركية. ولم تلبث المواجهات ان إنفجرت بين الميليشيات المسيحية من جهة والقوات السورية من جهة أخرى.
واستغلت إسرائيل الوجود الفلسطيني المسلح على الأراضي اللبنانية وقابلية الطوائف المتعايشة للنزاع الداخلي، لتظهر أن لبنان المتعدد الأديان والإنتماءات هو خطأ تاريخي ودولة مصطنعة، فأرسلت عملاءها والأسلحة لتأجيج النزاعات الطائفية.
وسخّرت الصهيونية العالمية كل الوسائل لدحض مقولة تعايش الطوائف في وطن واحد وفي اطار ديموقراطي علماني. وهذا ما تجلّى في أكثر من حرب خاضتها إسرائيل في لبنان حيناً بوسائلها المباشرة (إجتياح العام 1982 واحتلال بيروت) وأحياناً غير مباشرة من طريق تقوية فئة او طائفة على أخرى، او تقوية الطائفتين معاً بعضهما ضد الآخر. ولنا من حرب الجبل الممتدة من خريف 1982 الى خريف 1983 خير شاهد على دور إسرائيل الاساسي الذي دقّ إسفيناً في وحدة لبنان التاريخية علماً ان حرب الجبل لم تكن هي الوحيدة التي تدخّلت فيها إسرائيل وأثبتت فيها مصالحها الهادفة لا الى إنقاذ المسيحيين، كما كان يتوهم البعض، بل الى تنفيذ خططها في الشرق الاوسط ( للمزيد من الضروري قراءة كتاب “آلان مينارغ” بعنوان “أسرار حرب لبنان”). وقد نجحت إسرائيل في إحداث شرخٍ عميق بين المسيحيين والدروز في الجبل من خلال المجازر التي إرتُكبت وعمليات التدمير والتهجير التي حدثت.
160 ألف قتيل
لقد أدّت الحروب التي شهدها لبنان بين العامين 1975 و1990 والتي دارت بين المسيحيين والمسلمين، وبين المسيحيين والمسيحيين، وبين المسلمين والمسلمين، وبين لبنانيين وفلسطنيين، وبين لبنانيين والقوات السورية، وبين لبنانيين وجيش العدو الاسرائيلي، الى سقوط حوالي 160 ألف قتيل و150 الف جريح وستة آلاف معوّق و17 الف مفقود و 483 قتيلاً من القوات الدولية لحفظ السلام، و32 ضحية من الجسم الديبلوماسي الأجنبي. كما اضطر حوالي 827 ألف لبناني الى ترك منازلهم (670 الف مسيحي و157الف مسلم)، كما هاجر حوالي 895 الف لبناني بينهم الآلاف من الكوادر المتخصصة (أطباء، مهندسون، اساتذة جامعيون، محامون…) إضافةً الى كل ذلك تمّ تدمير عشرات القرى والمصانع وقُدرت الخسائر الإقتصادية بحوالي 10 مليارات دولار اميركي.
المرحلة الخامسة: إعادة توزيع السلطة
بعد العام 1990 دخل لبنان مرحلة جديدة في تاريخه. فتوقيع إتفاق الطائف الذي تُرجم بالدستور اللبناني الجديد، أعاد توزيع السلطة على الطوائف اللبنانية من خلال تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية لصالح مجلس الوزراء مجتمعاً وتركيب مجلس النواب والقوانين الإنتخابية بشكل يعكس المعطيات الديموغرافية الجديدة مع المحافظة على المناصفة الشكلية بين المسيحيين والمسلمين. لقد ترجم “اتفاق الطائف”، وما أعقبه من قوانين وتقاليد وأعراف جديدة هزيمة المسيحيين وخسارتهم للحرب التي خاضوها منذ العام 1975.
وفي مقابل تراجع نفوذ المسيحيين شهد لبنان تصاعداً في العمليات العسكرية التي كان يخوضها مقاتلو “حزب الله” في مواجهة الإحتلال الإسرائيلي. وهذا ما أجبر جيش العدو على الإنسحاب من جنوب لبنان، بعدما كان سحب قواته من بيروت نتيجة العمليات التي قام بها مقاتلو الحزب السوري القومي الإجتماعي والحزب الشيوعي اللبناني والاحزاب اللبنانية الوطنية. وقد عكست هزيمة إسرائيل وانسحابها من الجنوب، النفوذ المتصاعد للطائفة الشيعية التي أصبحت شريكاً وازناً في السلطة الى جانب الطائفة السنية والمسيحيين.
الطوائف في المحاور الاقليمية
وفي مواجهة التناغم السني – الشيعي المدعوم من المخابرات السورية العاملة في لبنان التي كانت لها اليد الطولى في تركيب المجالس النيابية والحكومات، جاءت عملية إغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام 2005، بما يمثل لبنانياً وإقليمياً ودولياً، لتزرع الشقاق بين الطائفتين السنية والشيعية ولتعيد خلط الاوراق والتحالفات على الساحة اللبنانية. خرج الجيش السوري من لبنان فوجدت إسرائيل الفرصة مناسبة لتصفية حساباتها مع المقاومة، فكانت حرب 2006 حيث استطاع اللبنانيون بتماسكهم ووحدتهم منع العدو الإسرائيلي من تحقيق أهدافه.
ومع بداية ما سُمي خطاً بـ”الربيع العربي”، إنفجرت الأوضاع في سوريا بدعم إقليمي ودولي. فتدفق المقاتلون من كل انحاء العالم لدعم “الثورة السورية”، وخُصصت مليارات الدولارات لإسقاط نظام الرئيس بشار الاسد. لكن النظام السوري لم يسقط بفعل تماسك الجيش السوري اولاً، ودعم “محور المقاومة” ثانياً، والموقف الروسي- الصيني الذي شكل مظلة دولية لحماية النظام ثالثاً.
وبعد أن ألغى الإرهاب التكفيري، ممثلاً بتنظيمات أصولية تدّعي الإنتماء الى الاسلام، الحدود بين الدول التي نشأت على أثر إتفاقية سايكس- بيكو، دخل لبنان بكل طوائفه في خضم الأزمة التي تضرب سوريا والعراق وغيرهما من الدول العربية. وانقسمت الطوائف اللبنانية بين المحاور الاقليمية المتصارعة، فوقف السنّة الى جانب المحور الأميركي الخليجي التركي، ووقف الشيعة الى جانب المحور الروسي الإيراني السوري، بينما انقسم المسيحيون بين المحورين. ولولا حاجة اللاعبين الكبار الى بعض الهدوء على الساحة اللبنانية لادارة الصراع الاقليمي منها وعبرها لكان انفجر الوضع منذ فترة طويلة، وهو مرشح للإنفجار في أي لحظة إذا ما قررالعدو الاسرائيلي خوض مغامرة جديدة للقضاء على قوة “حزب الله” في لبنان.
3- الاستقلال في ظل العولمة:
شهد الربع الأخير من القرن العشرين، على المستوى الدولي، مجموعة أحداث لا نزال نعيش إرتداداتها وتداعياتها. فسقوط الإتحاد السوفياتي وهدم جدار برلين وانهيار حلف وارسو ودخول الدين بقوة الى حلبة الصراع السياسي الدولي والثورة التكنولوجية والعولمة بكل مضامينها الإقتصادية والسياسية والثقافية، أدت إلى نشوء واقع دولي جديد، وعلاقات دولية جديدة أسقطت الحدود بين الدول وأعادت صياغة مفاهيم الإستقلال والسيادة وحقوق الانسان والعدالة والمنطق وحدود إستعمال القوة في هذه الكرة الأرضية التي تحوّلت إلى قرية كونية.
فالشركات المتعددة الجنسيات تفرض إيقاعها على سكان العالم، والصراع الدولي على الثروات والأسواق يسقط يومياً آلاف الضحايا الأبرياء، ومؤتمر دافوس، الذي ورث نادي روما، تحوّل إلى إطار دولي يقرر مصير البشرية. الصراع الإقتصادي بين الولايات المتحدة الأميركية والصين على تبوُّء عرش العالم الإقتصادي على أشده. والصراع العسكري بين أميركا (موازنة البنتاغون تصل إلى أكثر من 700 مليار دولار) من جهة والإتحاد الروسي المتحالف مع قوى إقليمية صاعدة يكاد يصل إلى العتبة النووية، فيما نفوذ القارة العجوز يتراجع سياسياً واقتصادياً وثقافياً مقابل صعود مخيف للنمر الصيني.
فهل يمكن الحديث عن إستقلال في ظل هذه المتغيرات الدولية وفي بلد يعتمد ب90% من غذائه على الخارج ويُعاني من دين عام يصل إلى 100 مليار دولار و40% من سكانه يعيشون تحت خط الفقر ونسبة البطالة بين شبابه تصل إلى 35%؟
خاتمة
لقد أخفق اللبنانيون في بناء الدولة القوية القادرة، العادلة، وفي بناء المواطن الذي يُدين بالولاء كاملاَ لوطنه. وإذا كانت لهذه الظاهرة أسبابها الداخلية ومنها السياسي والإقتصادي والإجتماعي، إضافة الى الممارسات الطائفية والأنظمة البالية والإختلالات الإجتماعية، فإن الأسباب الخارجية لا يُمكن ان تغرب عن بال أي باحث. هذه الأسباب تتمثل بالأطماع التوسعية والمخططات العدوانية الاسرائيلية من جهة وبالتناقضات السياسية والدينية العربية التي انعكست تمزّقاً في الجسم اللبناني، دون أن ننسى تحوّل لبنان (بعد اكتشاف النفط والغاز فيه) الى ساحة تجاذب بين القوى الكبرى والى ورقة متداولة في اللعبة الدموية الدائرة على ساحات الشرق الاوسط.
وفي الواقع، تباين اللبنانيون في النظرة الى الإنسان والمجتمع والدولة والوطن، واختلفوا حول شكل الإنتماء الى التاريخ وطبيعة العلاقات مع المحيط، وكان هذا الإختلاف مصدر صراع في الإجتماع السياسي. وقد فشلت كلّ المقاربات التغييرية لإيجاد صيغة سوسيولوجية لاجتماعية الطوائف، لا بل دفعت هذه المقاربات الى المزيد من التمسّك بالخصوصيات وتشريعها في صيغ قانونية وواقعية خصوصاً في مرحلة ما بعد الإستقلال.
لقد اختزن الواقع اللبناني والتركيبة اللبنانية على الدوام، وبصورة متواصلة، في ثناياهما الكثير من أسباب القلق والخوف والريبة والإلتباس في النظر الى المستقبل وتجسّد ذلك في التعارض الجوهري بين الرعاية الوحدوية للبنان الأرض والشعب والمؤسسات وبين التمسك بذاتية الطوائف في المجتمع وبكياناته الواقعية وبحقوقها في الدولة.
وفي الختام يمكن القول أنه بالنسبة إلى لبنانيين يبقى الإستقلال مرادفاً للشخصية الوطنية ولإستمرارية الكيان وللقدرة على مواجهة التحدّيات الإقليمية والدولية والحضارية والإقتصادية. وإذا كان الإستقلال التام الكامل ليس في الواقع من خصائص العصر، حتى بالنسبة الى الدول العظمى، فإن ممارسة السيادة تبقى شرطاً أساسياً للحفاظ على استقلالية القرار. ولدينا إيمان كبير بانتصار دولة لبنان الاستقلال بمضامينه السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة على الحرية والعدالة وحقوق الانسان.
عشنا في العام 1943 إندفاعة إستقلال لبنان، وعشنا بعد أحداث 1958 مع الشهابية إندفاعة بناء دولة الإستقلال، وعشنا منذ العام 1975 أزمة الإستقلال والعيش المشترك، وينبغي أن نعيش اليوم إندفاعة بناء مجتمع الإستقلال.
• باحث وأستاذ جامعي لبناني ومدير عام سابق.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.