عند وُقُوع الكارثة يستقيل الوزير قبل معاقبة الموظف
بقلم هنري زغيب*
في منطق العمل الإِداري أَنَّ رأْسَ السُلَّم، في هيكَلية الإِدارة، هو المسؤُولُ عـمّا يَـجري في حَــرَم هذه الهيكلية: يتلقَّى الثوابَ والتهنئَةَ والتنويه، وبالمقابل يتحمَّلُ المسؤُوليةَ عن كل خلَلٍ أَو خَطَـإٍ أَو إِهمال، ولو لم يكن مُقترفًا أَو على عـلْـمٍ بما جرى.
في هذا السياق ما حصَلَ في الأُردُنِّ إِثْـر كارثة الفيضان الذي، في منطقة البحر الميت، جرَفَ حافلةً تُـقِلُّ تلامذةً في رحلةٍ مدرسية، فغرقَت الحافلة بين السيول الهائجة وضاعَ التلامذة ومرافقوهم ضحايا ومفقودين وجرحى في حادثةٍ فاجعةِ الترَدُّدات القاصمة.
هزَّت الحادثةُ أَرجاءَ المملكة الهاشمية فأَعلَن الديوان الملَكيُّ تنكيسَ العَـلَم الأُردني والحِدادَ ثلاثة أَيام، وبدأَ التحقيقُ لتحديد المسؤُولية بين وزارة التربية وإِدارة المدرسة التي لم تَـمْـتَـــثِــلْ لتحذيرات الدولة عدَمَ التوجُّهِ إِلى تلك الناحية في الظروف الـمُناخية فَــتْـرَتَــئِـذٍ.
وإِذِ اعتبرَت الحكومةُ أَنها تتحمَّل المسؤُوليةَ الأَخلاقية والسياسية عن تلك الفاجعة، تَقدَّمَ وزيرُ التربية عزمي محافظة ووزيرةُ السياحة لينا عناب باستقالَــتَــيْـهِما إِلى رئيس الحكومة الدكتور عمر الرزاز، وصدَر عن الديوان الملَكي الأُردُنيّ بيانٌ بقُبول الاستقالتَين وتعيين وزيرَين بديلَين لِــتَــيْــنِكَ الحقيبَـتَـين.
وفي الكويت كذلك استقال وزير الأَشغال العامة وزير الدولة للشؤون البلدية المهندي حسام الرومي على أَثَر السيول التي سبَّبَتْ مقتل مواطِـنَــين كويــتِــيَّـــيْـن.
وكما قلتُ في بداية النص: قد لا يكون الوزيرُ مسؤُولًا مباشِرًا عن حادثةٍ تَـجري في حَرَم وزارته أَو في مداها الوطني، إِلَّا أَنَّ العقوبة لا يمكن أَن تتحمَّلها وحدَها الجهةُ التنفيذية أَو مَن في أَسفل سُلَّم الهيكلية الإِدارية.
وكم سمعْنا من أَخبار الدول المتقدِّمة عن استقالةِ وزيرٍ أَو نائبٍ أَو مسؤُولٍ بسبَب حادثٍ لم يقترفْه ولم يَدْرِ مسْبقًا به. فالمسؤُولُ هو مَن يُسأَلُ عمَّا جرى، لا مَن يتساءَلُ كيف جرى. وهو فقط ليس لتلَقِّي التهاني والتنويهات، بل تلحَقُه عقوبةُ المسؤُوليةِ المعنويةِ كي يتنبَّهَ خَلَفُهُ إِلى ضرورة السهَر أَكثرَ على جهازِه الإِداري والفني فلا تتكرَّرَ حادثةٌ قد تكون مأْسويةً على المواطنين الذين هُم، بَدَاهةً، من مسؤُولية الدولة فردًا فردًا بين أَبنائها.
وما زلنا نَذكُر حادثةَ مجلس العموم البريطاني في الأَوَّل من شباط (فبراير) هذا العام، حين تقدَّمَت إِحدى لوردات المجلس بسؤَالٍ إِلى الوزير اللورد مايكل بايتس (Bates) ولم يكُن وصَلَ بعد. ولدى وُصُوله متأَخِّـرًا خَمسَ دقائقَ فقط وعِلْمِه بالسؤَال الذي وجَّهَتْهُ إِليه اللُوردَةُ قبل وصوله، طلَب الكلام وارتقى المنبر، وبكلِّ هُدُوءٍ ونُبْلٍ ومسؤُوليةٍ ديموقراطيةٍ قال: “أَشعُرُ بالخجل والعار أَني وصلتُ متأَخِّـرًا خمسَ دقائقَ ولم أَكُنْ حاضرًا لأُجيبَ عن السؤَال. لذا أَتقدَّمُ فورًا باستقالتي من الحكومة”. وَحَـمَلَ حقيبَتَه وخرَجَ منصرفًا من قاعة المجلس.
هي هكذا الدولُ التي لا تَتَغَرغَرُ بالـمَسؤُوليةِ والديموقراطيةِ لفظيًّا وتنظيريًّا، بل تزاولُهما يوميًّا، فلا يتغيَّب – بدون إِذْنٍ أَو عُذرٍ- وزيرٌ عن جلسةِ حكومة، ولا نائبٌ عن جلسةٍ تشريعيةٍ أَو لجنةٍ نيابية، ولا “يستحلي” مسؤُولون الأَسفارَ على نفَقة الدولة كي يتابعوا أَعمالهم الشخصيةَ الخاصة، ولا تتعطَّلَ حكومةٌ عن التشكيل، ولا يتعطَّلَ مجلسُ نوَّابٍ عن الإلتئام، ولا يُعاقَبَ موظَّفٌ على فِعْلةٍ يقترفُها فيَنبري وزيرُه أَو مُديرُه المسؤُول ويتَّخذُ بِـحقِّه إِجراءً صارمًا فيما يبقى معالي الوزير راتعًا في معاليه وعَلاليه، ويـبقى المسؤُولُ الكبيرُ راتعًا مُـحَصَّنًا في منصِبه لأَنه مَـحمِيٌّ مِـمَّن يُوزِّعُون المناصبَ مفَصَّلةً على قياس الـمَحاسيب والأَزلام.
ومن استقالات وزيرِ الكويت أَمس الأول، ووزيرَي الأُردنّ قبل أَيَّام، ووزيرِ بريطانيا العظمى قبل أَشهُر، لنا أَمثلةٌ عُظمى على كيفيَّة بناءِ الدولة: بِــرجالات الدولة لا بإِقطاعات السادة السياسيين.
• هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو الإطلاع على إنتاجه على: www.henrizoghaib.com أو www.facebook.com/poethenrizoghaib