وأخيراً… هل تنتصر الدماء؟
بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*
في عالمنا المغلوب على بؤسه، لم تعد الحقيقة مطلباً، لكنك رغم ذلك تستطيع أن تنال منها ما يُناسب إحتياجاتك، وقدرتك على الفهم والإنحياز. لم تعد الحقيقة ضالة المؤمن أبداً، وإنما أصبحت ضالة عن المؤمنين بمختلف معتقداتهم وانحيازاتهم. لك أن تُصدّق الذين خطّطوا في الخفاء، ونفّذوا في السر. ويُمكنك أن تُصدّق من أتى بالجند والكاميرات وحاصر وصوّر. كما يمكنك أن تعصب عينيك وتزكم أنفك وتدّعي أن الذين طالبوا بالحقيقة كاملة وفرضوا العقوبات وألغوا تأشيرات الدخول وهدّدوا بمنع صفقات الأسلحة يحملون فوق رقابهم الملتوية ميزان العدالة الربانية الذي لا يميل ولا يُحابي. تستطيع أن تقف مع المملكة حاملاً سيفاً من خشب لتُحارب طواحين الوقائع مُدَّعياً أن أصحاب السفارة لم يكونوا من سكان العمارة وأنهم كانوا آخر المدعوين لحفل التمزيق والتشويه والسحل. لكنك حتماً لن تستطيع إن كنت تحمل قلباً لا زال ينبض بين ضلوعك المُقوَّسة أن تنكر أن كلام المغدور أولى بالتصديق، وأن دماءه الزكية أطهر من كافة الأحبار التي سيهرقها المنافقون في كل القارات.
الحقيقة التي سيظل الإعلام المُنافِق هنا والمُحابي هناك يتجاهلها عامداً مُتعمّداً هي أن الفقيد قد رحل دفاعاً عن حرية لا تزال مسلوبة، وعن كلمة لا تزال مصلوبة في بلاد يتوارث رعيتها الحكام كما يتوارثون خزائنها. مات جمال خاشقجي كما مات غيره الكثيرون، لكن نائحة اليوم حق لها أن تكون أعلى صوتاً، بما يتناسب مع بشاعة الجرم ووزن المُتَّهِمين والمُتّهَمين وموقع الجريمة. لا أستطيع، ولا أعرف إن كان أحد غير الفاعل المستتر يستطيع أن يذكر صراحة أسماء الجناة. لكنني أستطيع أن أؤكد أن الراحل قد ذهب ضحية السياسة التي لا تعترف بحرمة دماء أو قدسية كلمة. نستطيع أن نجزم أن الذي قتل الضحية بدم بارد أراد أن يُشنّع جريمته قدر المستطاع كي يحصل على أكبر قدر من المُشاهدين في حفلة رعب كونية تطال العرب خاصة والناس عامة في أي ركن من العالم وإن كان قصياً.
ذكرتني أحداث القنصلية بفظائع “داعش”، التي مارست العنف جهاراً نهاراً وصوّرته بأحدث الكاميرات وآخر التقنيات ومن خلفها رايات سوداء ولحى كثة وتكبيرات تعلو فوق صوت المُشكّكين. ولأن المشهد لم يعد غريباً على أذهان تقبّلت سالفاً فكرة تدمير البرجين الأميركيين في نيويورك على يد جماعة بدوية لا تعرف من فنون القتال غير القفز فوق النيران بأسلحة خفيفة، يُمكننا اليوم تقبّل فكرة ذهاب خاشقجي الذي يبلغ الستين من العمر برفقة خطيبة إلى سفارة بلاده في تركيا لتوثيق زواجه. تعوّد المخرج دائماً أن يُسقِط عمداً ملابسات الحادث، ليتركنا مع ملف جريمة بشعة تتمزّق فيها الأوصال وتسلخ فيها الجلود، تماماً كما تركنا مَشدوهين أمام صناديق محكمة الغلق يحترق فيها البرآء أو يغوصون تحت مياه المحيط ليلفظوا أنفاسهم الأخيرة بعيداً من أعين الكاميرا.
المشهد هوليوودي بامتياز، والمخرج في كل الحالات واحد، وكذلك المشاهدون الذين خلع الرعب والحسد والبغضاء أعينهم، فانهالوا بكل عزيمة على الطرف الأضعف كالعادة، وكعادة الضعف عربي.
الذين قتلوا خاشقجي لم يكتفوا بخنقه أو رميه بالرصاص، لكنهم جاؤوا إلى السفارة مدججين بالأسلحة والمناشير ليواجهوا رجلاً ضعيفاً أعزل، لم يستخدم في حياته غير القلم سلاحاً. وغداً تظهر الفيديوهات المرعبة من داخل أسوار الغرف المُغلقة لتفجعنا في فقيد الكلمة أكثر مما فجعتنا الأنباء، ثم تتركنا في حيرة من أمرنا: قتلناه نحن أم تراه انتحر؟ وبعد قليل من انتظارٍ مُمض على أطراف الأصابع، يخرج علينا المتاجرون بدمائنا ليطالبوا الشعوب التي لا حول لها ولا سفارة بدفع تكاليف السحل والقتل والتشويه. وهكذا يدفع أولياء الدم الفدية مرتين لقاتل محترف يجيد تصوير جثثنا المتفحمة. لينتقل المخرج بعدها بكامل فريق تصويره إلى أرض عربية أخرى ليلتقط بالكاميرا ذاتها فظيعة أخرى تشيب لهولها الرؤوس وتضع الحامل حملها.
لا أريد أن يُصدّق أحد روايتي هنا، ولا أخفيكم سراً أنني لم أعد أثق بالروايات حتى وإن كانت لي. لكنني أطالبكم أن تصدقوا قصة بطل الرواية الضحية. ففي آخر مقال كتبه المغدور، دعا خاشقجي إلى تحرير الصحافة في العالم العربي، مؤكداً أن العرب يستحقون واقعا أفضل، ويستحقون أن يقولوا كلمتهم من دون أن يحول بينهم وبين عودتهم إلى بلادهم طاغية، أو أن يمنع جلاد خروج فلذات أكبادهم من ديارهم لأي عذر. صحيح أن السلطات السعودية قد عطلت قراراً سابقاً بمنع ابن خاشقجي البكر من السفر بطلب من وزير الخارجية الأميركي، لكن صلاح لم يجد والده في واشنطن ليحتضنه بكامل حرية هناك. كما أن الآلاف من أصحاب الرأي لا يزالون رهن الاعتقال في بلاد الحرمين لمجرد أنهم عبّروا بحرية عن اعتراضهم على سياسات ولي العهد السعودي.
لا نريد أن يذهب دم خاشقجي هدراً أيها الطيبون، لكننا لا نريد أن نجعل أهل الضحية يدفعون ثمن القهر مرتين. نريد أن نفوّت على القاتل المحترف والمصوّر المدهش فرصة الأكل من لحومنا مرة بعد مرة. ولا نريد أن نتحول من مشهد إلى مشهد كالبلهاء في سيرك السياسة القذرة. لكننا نريد أن تنتصر كلمات الراحل على جلاديه، وأن لا نقوم بتغيير القناة قبل أن ندرك أي مغزي من قصة تكررت مرة ومرة ومرة، وقد تتكرر عشرات المرات إن سمحنا لها نحن المشاهدون بذلك.
• عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني التالي: Shaer129@me.com