أفيون المجتمع التلفزيوني
بقلم جوزف قرداحي
تتسابق المحطّات اللبنانية المحلية على إنتاج البرامج الإنتقادية الساخرة، وإستقطابها كمادة تلفزيونية دسمة تتمتع بنسبة مُشاهَدَة عالية في ظل رقابة متسامحة نسبيا،ً تتيح سقفاً عالياً من “رفع الصوت” على المسؤولين، في أسلوب لا يخلو من النقد اللاذع وإستخدام العبارات المتهكمة، التي قد تكون وسيلة تنفيس خفيفة الكلفة أمام المواطن اللبناني المثقل بشتى أنواع الهموم الحياتية اليومية.
هذا الفن الساخر المتكئ على الضحكة “المشغولة” بأوجاع الناس، والقائم رصيدها على” زكزكة” السياسيين و”التنمير” عليهم وتقليد شخصياتهم، عرفه اللبنانيون تحت إسم مسرح “الساعة العاشرة” أو مسرح القوّالين “الشانسونييه” مع رواد كبار مثل الراحلين إيفيت سرسق وغاستون شيخاني، وعبدلله نبوت المعروف بشخصية “دودول” ووسيم طبارة ومحمد شبارو، قبل ان تنتقل مقاليد “الولاية” الى الثنائيأاندره جدع وبيار شماصيان. وهو فن إستوردته تلك النخبة “الفرنكوفونية” من فرنسا مع بداية قيام نهضة ثقافية حديثة في الشارع البيروتي في ستينات القرن الفائت، وإقتصر تحديداً على جمهور أرستوقراطي غالبيته تنتمي الى الطبقة الحاكمة، التي كانت تُشكِّل مادة فرقة القوالين بإمتياز.
شظايا النقد اللاذع الذي إحترفته فرقة “الساعة العاشرة” في ذلك الزمن مهما تناثرت، فإنها كانت تبقى في دائرة السيطرة الرقابية، وإن وصلت اصداؤها الى العامة من الناس، فيما كانت تلامس أكثر من الشعور بمتعة الفكاهة المسلية، الى درجة ان زياد الرحباني إتهم تلك الطبقة من الفنانين بانها “أفيون المجتمع” في مسرحية “نزل السرور” والتي تنبأ فيها بالحرب اللبنانية.
“التنمير” على الوجع ولو خرج من جرح المعاناة اليومية، فانه يسكِّن الوجع نفسه، فتهدأ النفوس وتتخدّر”بنيكوتين” الضحك، الذي هو في الاساس وصفة طبية وعلاج نفسي للتفريج عن النفوس المكروبة. الأمر الذي يفسِّر تسامح أصحاب السلطة مع هذا النوع من “التطاول” الكوميدي!
غير ان التسابق المحموم على هذا النوع من البرامج، وإزدهار فرق “الشانسونييه” وتكاثرها بهذا الشكل الكبير في لبنان، الى درجة أنها تحتكر وحدها خشبة المسرح وتختزل الحركة المسرحية، هل هو دليل عافية ومؤشر جيد يعكس إنتعاشاً فنياً ونهضة إنتاجية، سواء على مستوى التلفزيون او المسرح؟!
إذا إستثنينا “بس مات وطن” الذي يجمع مواهب عرفت إبتكار الشخصيات (الكاراكتيرات) غيرالمُستهلَكة. (مع أسفنا الشديد لغياب الفريق الأهضم “أس أل شي”)، نجد أن لا إضافات جديدة أعطتها تلك الفرق سواء العاملة على الشاشة الصغيرة أم على الخشبة، فالشخصيات ممجوجة ومعلوكة من كثرة التكرار، والمادة متشابهة، والمواقف تنطوي على الإسفاف والإجترار. علماً أن تحليلنا لا ينفي وجود مواهب كبيرة أعطت مسرح “القوّالين” رصيداً مهماً، تستحق التكريم و”التعظيم” ومنها على سبيل المثال وليس الحصر: بيار شماصيان وأندره جدع، وماريو باسيل. فضلاً عن كتّاب هذا النوع من ذوي النكهات الخاصة والمنتمين الى مدارس مختلفة مثل: مارك قديح وشربل خليل ونعيم حلاوي وغيرهم. ولعلّ عدد التجارب التي أثبتت عقمها في وقت من الأوقات، وتوقُّف بعضها وتخبُّط بعضها الآخر في منتصف العرض يمثل دليلاً قاطعاً على صحة ما ندّعيه.
إذا كان هذا “الأفيون” الكاريكاتوري يروِّض المجتمع ويخدِّره، جاعلاً من لياليه أمسيات مملوءة بالأنس والإنشراح، فان خطورته تكمن في “تعويد” الذوق العام وتعميم هذا الانتاج على حساب فنون أخرى، قد تتحول مع الوقت الى تراث من الماضي، ينام في دهاليز الأرشيف التلفزيوني المُكدّس بالإهمال والغبار!